تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٠٠
الغيب أم اتخذ عند الرحم ن عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا * ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) * أي: أفلا تعجب من حالة هذا الكافر، الذي جمع بين كفره بآيات الله ودعواه الكبيرة، أنه سيؤتى في الآخرة مالا وولدا، أي: يكون من أهل الجنة، هذا من أعجب الأمور. فلو كان مؤمنا بالله وادعى هذه الدعوى، لسهل الأمر. وهذه الآية وإن كانت نازلة في كافر معين، فإنها تشمل كل كافر، زعم أنه على الحق، وأنه من أهل الجنة. قال الله، توبيخا له وتكذيبا: * (أطلع الغيب) * أي: أحاط علمه بالغيب، حتى علم ما يكون، وأن من جملة ما يكون، أنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا؟ * (أم اتخذ عند الرحمن عهدا) * أنه نائل ما قاله، أي: لم يكن شيء من ذلك، فعلم أنه متقول، قائل ما لا علم لديه. وهذا التقسيم والترديد، في غاية ما يكون من الإلزام وإقامة الحجة. فإن الذي يزعم أنه حاصل له خير عند الله في الآخرة، لا يخلو. إما أن يكون قوله صادرا عن علم بالغيوب المستقبلة، وقد علم أن هذا، لله وحده، فلا أحد يعلم شيئا من المستقبلات الغيبية، إلا من أطلعه الله عليه من رسله. وإما أن يكون متخذا عهدا عند الله، بالإيمان به، واتباع رسله، الذين عهد الله لأهله، وأوزع أنهم أهل الآخرة، والناجون الفائزون. فإذا انتفى هذان الأمران، علم بذلك، بطلان الدعوى، ولهذا قال تعالى: * (كلا) * أي: ليس الأمر كما زعم، فليس للقائل اطلاع على الغيب، لأنه كافر، ليس عنده من علم الرسائل شيء، ولا اتخذ عند الرحمن عهدا، لكفره وعدم إيمانه. ولكنه يستحق ضد ما تقول، وأن قوله مكتوب، محفوظ، ليجازى عليه ويعاقب. ولهذا قال: * (سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا) * أي: نزيده من أنواع العقوبات، كما ازداد من الغي والضلال. * (ونرثه ما يقول) * أي: نرثه ماله وولده، فينتقل من الدنيا فردا، بلا مال ولا أهل ولا أنصار، ولا أعوان * (ويأتينا فردا) * فيرى من وخيم العقاب، ما هو جزاء أمثاله من الظالمين. * (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا * ألم تر أنآ أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا * فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا) * وهذا من عقوبة الكافرين أنهم لما لم يعتصموا بالله، ولم يتمسكوا بحبل الله، بل أشركوا به ووالوا أعداءه، من الشياطين سلطهم عليهم، وقيضهم، فجعلت الشياطين، تؤزهم إلى المعاصي أزا، وتزعجهم إلى الكفر إزعاجا، فيوسوسون لهم، ويوحون إليهم، ويزينون لهم الباطل، ويقبحون لهم الحق، فيدخل حب الباطل في قلوبهم، ويتشربها فيسعى فيه سعي المحق في حقه فينصره بجده، ويجاهد أهل الحق في سبيل الباطل. وهذا كله، جزاء له على توليه من وليه وتوليه لعدوه جعل له عليه سلطانه. وإلا فلو آمن بالله، وتوكل عليه، لم يكن له عليه سلطان كما قال تعالى: * (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) *. * (فلا تعجل عليهم) * أي: على هؤلاء الكفار المستعجلين بالعذاب * (إنما نعد لهم عدا) * أي: أن لهم أياما معدودة لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون، نمهلهم ونحلم عنهم مدة ليراجعوا أمر الله، فإذا لم ينجع فيهم ذلك أخذناهم أخذ عزيز مقتدر. * (يوم نحشر المتقين إلى الرحم ن وفدا * ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا * لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحم ن عهدا) * يخبر تعالى عن تفاوت الفريقين، المتقين، والمجرمين، وأن المتقين له باتقاء الشرك والبدع والمعاصي يحشرهم إلى موقف القيامة مكرمين، مبجلين معظمين، وأن مآلهم الرحمن، وقصدهم المنان، وفدا إليه، والوافد، لا بد أن يكون في قلبه، من الرجاء، وحسن الظن بالوافد إليه، ما هو معلوم. فالمتقون، يفدون إلى الرحمن، راجين من رحمته، وعميم إحسانه، والفوز بعطاياه في دار رضوانه، وذلك بسبب ما قدموه من العمل بتقواه، واتباع مراضيه، وأن الله عهد إليهم بذلك الثواب، على ألسنة رسله فتوجهوا إلى ربهم مطمئنين به، واثقين بفضله. وأما المجرمون، فإنهم يساقون إلى جهنم وردا، أي: عطاشا، وهذا أبشع ما يكون من الحالات سوقهم على وجه الذل والصغار، إلى أعظم سجن وأفظع عقوبة، وهو جهنم، في حال ظمأهم ونصبهم، يستغيثون، فلا يغاثون ويدعون، فلا يستجاب لهم، ويستشفعون، فلا يشفع لهم، ولهذا قال: * (لا يملكون الشفاعة) * أي: ليست الشفاعة ملكهم، ولا لهم منها شيء، وإنما هي لله تعالى * (قل لله الشفاعة جميعا) *. وقد أخبر أنه لا تنفعهم شفاعة الشافعين، لأنهم
(٥٠٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 495 496 497 498 499 500 501 502 503 504 505 ... » »»