تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٩٩
بردا وسلاما. وقيل: الورود، هو المرور على الصراط، الذي هو على متن جهنم. فيمر الناس على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، وكالريح، وكأجاويد الخيل، وكأجاويد الركاب. ومنهم من يسعى، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يزحف زحفا، ومنهم من يخطف فيلقى في النار، كل بحسب تقواه، ولهذا قال: * (ثم ننجي الذين اتقوا) * الله تعالى بفعل المأمور، واجتناب المحظور * (ونذر الظالمين) * أنفسهم بالكفر والمعاصي * (فيها جثيا) * وهذا بسبب ظلمهم وكفرهم، وجب لهم الخلود، وحق عليهم العذاب، وتقطعت بهم الأسباب. * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا * وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا) * أي: وإذا تتلى على هؤلاء الكفار آياتنا بينات، أي: واضحات الدلالة على وحدانية الله، وصدق رسله، توجب لمن سمعها، صدق الإيمان، وشدة الإيقان قابلوها بضد ما يجب لها، واستهزؤوا بها، وبمن آمن بها واستدلوا بحسن حالهم في الدنيا، على أنهم خير من المؤمنين فقالوا معارضين للحق: * (أي الفريقين) * أي: نحن والمؤمنين * (خير مقاما) * أي: في الدنيا، من كثرة الأموال والأولاد، وتفوق الشهوات * (وأحسن نديا) * أي مجلسا: أي: فاستنتجوا من هذه المقدمة الفاسدة، بسبب أنهم أكثر مالا وأولادا وقد حصلت أكثر مطالبهم من الدنيا، ومجالسهم وأنديتهم مزخرفة مزوقة، والمؤمنون بخلاف هذه الحال، فهم خير من المؤمنين. وهذا دليل في غاية الفساد، وهو من باب قلب الحقائق، وإلا فكثرة الأموال والأولاد، وحسن المنظر، كثيرا ما يكون سببا لهلاك صاحبه، وشقائه، وشره، ولهذا قال تعالى: * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا) * أي: متاعا، من أوان وفرش، وبيوت، وزخارف * (ورئيا) * أي: أحسن مرأى ومنظرا، من غضارة العيش، وسرور اللذات، وحسن الصور. فإذا كان هؤلاء المهلكون أحسن منهم أثاثا ورئيا، ولم يمنعهم ذلك من حلول العقاب بهم، فكيف يكون هؤلاء، وهم أقل منهم وأذل، معتصمين من العذاب * (أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر) *؟ وعلم من هذا، أن الاستدلال على خير الآخرة بخير الدنيا، من أفسد الأدلة، وأنه من طرق الكفار. * (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحم ن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا) * لما ذكر دليلهم الباطل، الدال على شدة عنادهم، وقوة ضلالهم، أخبر هنا، أن من كان في الضلالة، بأن رضيها لنفسه، وسعى فيها، فإن الله يمده منها، ويزيده فيها حبا، عقوبة له على اختيارها على الهدى قال تعالى: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) *، * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) *. * (حتى إذا رأوا) * أي: القائلون: * (أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا) *، * (ما يوعدون إما العذاب) * بقتل أو غيره * (وإما الساعة) * التي هي باب الجزاء على الأعمال * (فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا) * أي: فحينئذ يتبين لهم بطلان دعواهم، وأنها دعوى مضمحلة، ويتيقنون أنهم أهل الشر. * (وأضعف جندا) * ولكن لا يفيدهم هذا العلم شيئا، لأنه لا يمكنهم الرجوع إلى الدنيا، فيعملون غير عملهم الأول. * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا) * لما ذكر أنه يمد للظالمين في ضلالهم، ذكر أنه يزيد المهتدين هداية من فضله عليهم ورحمته. والهدى يشمل العلم النافع، والعمل الصالح. فكل من سلك طريقا في العلم والإيمان، والعمل الصالح، زاده الله منه وسهله عليه ويسره له، ووهب له أمورا أخر، لا تدخل تحت كسبه، وفي هذا دليل على زيادة الإيمان ونقصه، كما قاله السلف الصالح. ويدل عليه قوله تعالى: * (ليزداد الذين آمنوا إيمانا) *، * (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) *. ويدل عليه أيضا، الواقع، فإن الإيمان قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، والمؤمنون متفاوتون في هذه الأمور، أعظم تفاوت. ثم قال: * (والباقيات الصالحات) * أي: الأعمال الباقية، التي لا تنقطع إذا انقطع غيرها، ولا تضمحل، هي الصالحات منها، من صلاة وزكاة، وصوم، وحج، وعمرة، وقراءة، وتسبيح، وتكبير، وتحميد، وتهليل، وإحسان إلى المخلوقين، وأعمال قلبية وبدنية. فهذه الأعمال * (خير عند ربك ثوابا وخير مردا) * أي: خير عند الله، ثوابها وأجرها، وكثير للعاملين نفعها وردها، وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل في غير بابه، فإنه ما ثم غير الباقيات الصالحات، عمل ينفع ولا يبقى لصاحبه ثوابه، ولا ينجع. ومناسبة، ذكر الباقيات الصالحات، والله أعلم أنه لما ذكر أن الظالمين جعلوا أحوال الدنيا من المال والولد، وحسن المقام ونحو ذلك، علامة لحسن حال صاحبها، أخبر هنا أن الأمر، ليس كما زعموا، بل العمل الذي هو عنوان السعادة، ومنشور الفلاح، بما يحبه الله ويرضاه. * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا * أطلع
(٤٩٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 494 495 496 497 498 499 500 501 502 503 504 ... » »»