تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٩٨
لفراقه، وليطمئن قلبه بنزوله. فأنزل الله تعالى على لسان جبريل * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * أي: ليس لنا من الأمر شيء، إن أمرنا، ابتدرنا أمره، ولم نعص له أمرا، كما قال الله عنهم: * (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) * فنحن عبيد مأمورون. * (له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك) * أي: له الأمور الماضية والمستقبلة والحاضرة، في الزمان، والمكان، فإذا تبين أن الأمر كله لله، وأننا عبيد مدبرون، فيبقى الأمر دائرا بين (هل تقتضيه الحكمة الإلهية فينفذه؟ أم لا تقتضيه فيؤخره؟ ولهذا قال: * (وما كان ربك نسيا) * أي: لم يكن لينساك ويهملك، كما قال تعالى: * (ما ودعك ربك وما قلى) *. بل لم يزل معتنيا بأمورك، مجربا لك على أحسن عوائده الجميلة، وتدابيره الجليلة. أي: فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد، فلا يحزنك ذلك، ولا يهمك، واعلم أن الله، هو الذي أراد ذلك، لما له من الحكمة فيه. ثم علل إحاطة علمه، وعدم نسيانه، بأنه * (رب السماوات والأرض) * فربوبيته للسموات والأرض، وكونهما على أحسن نظام وأكمله، ليس فيه غفلة ولا إهمال، ولا سدى، ولا باطل، برهان قاطع على علمه الشامل، فلا تشغل نفسك بذلك، بل اشغلها بما ينفعك، ويعود عليك طائله وهو: عبادته وحده، لا شريك له. * (واصطبر لعبادته) * أي: اصبر نفسك عليها، وجاهدها، وقم عليها أتم القيام وأكمله بحسب قدرتك. وفي الاشتغال بعبادة الله تسلية للعابد عن جميع التعلقات والمشتهيات، كما قال تعالى: * (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه) * إلى أن قال: * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) * الآية. * (هل تعلم له سميا) * أي: هل تعلم لله مساميا، ومشابها، ومماثلا من المخلوقين. وهذا استفهام بمعنى النفي، المعلوم بالعقل. أي: لا تعلم له مساميا ولا مشابها، لأنه الرب، وغيره مربوب، الخالق، وغيره مخلوق، الغني من جميع الوجوه، وغيره فقير بالذات من كل وجه، الكامل، الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وغيره ناقص ليس فيه من الكمال، إلا ما أعطاه الله تعالى، فهذا برهان قاطع على أن الله هو المستحق لإفراده بالعبودية، وأن عبادته حق، وعبادة ما سواه باطل، فلهذا أمر بعبادته وحده، والاصطبار عليها، وعلل بكماله وانفراده، بالعظمة، والأسماء الحسنى. * (ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا * أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) * المراد بالإنسان ههنا، كل منكر للبعث، مستبعد لوقوعه. فيقول مستفهما على وجه النفي والعناد والكفر * (أإذا ما مت لسوف أخرج حيا) *. أي: كيف يعيدني الله حيا بعد الموت، وبعد ما كنت رميما؟ هذا لا يكون ولا يتصور، وهذا بحسب عقله الفاسد، ومقصده السيء، وعناده لرسل الله وكتبه، فلو نظر أدنى نظر، وتأمل أدنى تأمل، لرأى استبعاده للبعث، في غاية السخافة، ولهذا ذكر تعالى برهانا قاطعا، ودليلا واضحا، يعرفه كل أحد على إمكان البعث فقال: * (أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل، ولم يك شيئا) * أي: أو لا يلفت نظره، ويستذكر حالته الأولى، وأن الله خلقه أول مرة، ولم يك شيئا. فمن قدر على خلقه من العدم، ولم يك شيئا مذكورا، أليس بقادر على إنشائه بعد ما تمزق، وجمعه بعد ما تفرق؟ وهذا كقوله: * (وهو الذي يبدىء الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) *. وفي قوله: * (أو لا يذكر الإنسان) * دعوة للنظر، بالدليل العقلي، بألطف خطاب، وأن إنكار من أنكر ذلك، مبني على غفلة منه عن حاله الأولى. وإلا فلو تذكرها وأحضرها في ذهنه، لم ينكر ذلك. * (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا * ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحم ن عتيا * ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) * أقسم الله تعالى وهو أصدق القائلين بربوبيته، ليحشرن هؤلاء المنكرين للبعث، هم وشياطينهم وليجمعنهم لميقات يوم معلوم. * (ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) * أي: جاثين على ركبهم من شدة الأهوال، وكثرة الزلزال، وفظاعة الأحوال، منتظرين لحكم الكبير المتعال، ولهذا ذكر حكمه فيهم فقال: * (ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا) * أي: ثم لننزعن من كل طائفة وفرقة من الظالمين المشتركين في الظلم والكفر، والعتو أشدهم عتوا، وأعظمهم ظلما، وأكبرهم كفرا فيقدمهم إلى العذاب، ثم هكذا يقدم إلى العذاب، الأغلظ إثما، فالأغلظ، وهم في تلك الحال متلاعنون، يلعن بعضهم بعضا. وتقول أخراهم لأولاهم: * (ربنا هؤلاء الذين أضلونا، فآتهم عذابا ضعفا في النار * وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل) *، وكل هذا، تابع لعدله. وحكمته وعلمه الواسع ولهذا قال: * (ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) * أي: علمنا محيط بمن هو أولى صليا بالنار، وقد علمناهم، وعلمنا أعمالهم واستحقاقها، وقسطها من العذاب. * (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) * وهذا خطاب لسائر الخلائق، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، أنه ما منهم من أحد، إلا سيرد النار، حكما حتمه الله على نفسه، وأوعد به عباده، فلا بد من نفوذه، ولا محيد عن وقوعه. واختلف في معنى الورود فقيل: ورودها، حضورها للخلائق كلهم، حتى يحصل الانزعاج من كل أحد، ثم بعد، ينجي الله المتقين. وقيل: ورودها، دخولها وحضورها، فتكون على المؤمنين
(٤٩٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 493 494 495 496 497 498 499 500 501 502 503 ... » »»