تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٠٤
عنها وقوله تعالى: * (وما تلك) * إلى * (من آياتنا الكبرى) *. * (وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى) * لما بين الله لموسى أصل الإيمان، أراد أن يبين له، ويريه من آياته، ما يطمئن به قلبه، وتقر به عينه، ويقوى إيمانه، بتأييد الله له على عدوه فقال: * (وما تلك بيمينك يا موسى) * هذا، مع علمه تعالى، ولكن لزيادة الاهتمام في هذا الموضع، أخرج الكلام بطريق الاستفهام. فقال موسى: * (هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي) * ذكر فيها، هاتين المنفعتين، منفعة لجنس الآدمي، وهو أنه يعتمد عليها في قيامه ومشيه، فيحصل فيها معونة، ومنفعة للبهائم، وهو أنه كان يرعى الغنم، فإذا رعاها في شجر الخبط ونحوه، هش بها، أي: ضرب الشجر، ليتساقط ورقه، فيرعاه الغنم. هذا الخلق الحسن من موسى عليه السلام، الذي من آثاره، حسن رعاية الحيوان البهيم، والإحسان إليه، دل على عناية من الله له واصطفاء، وتخصيص تقتضيه رحمة الله وحكمته. * (ولي فيها مآرب) * أي: مقاصد * (أخرى) * غير هذين الأمرين. ومن أدب موسى عليه السلام، أن الله لما سأله عما في يمينه، وكان السؤال محتملا عن السؤال عن عينها، أو منفعتها أجابه بعينها، ومنفعتها. فقال الله له: * (ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى) * انقلبت بإذن الله ثعبانا عظيما، فولى موسى هاربا خائفا، ولم يعقب. وفي وصفها بأنها تسعى، إزالة لوهم يمكن وجوده، وهو أن يظن أنها تخييل، لا حقيقة، فكونها تسعى يزيل هذا الوهم. فقال الله لموسى: * (خذها ولا تخف) * أي: ليس عليك منها بأس. * (سنعيدها سيرتها الأولى) * أي: هيئتها وصفتها، إذ كانت عصا، فامتثل موسى أمر الله، إيمانا به، وتسليما، فأخذها، فعادت عصاه التي كان يعرفها، هذه آية. ثم ذكر الآية الأخرى فقال: * (واضمم يدك إلى جناحك) * أي: أدخل يدك إلى جيبك، وضم عليك عضدك، الذي هو جناح الإنسان * (تخرج بيضاء من غير سوء) * أي: بياضا ساطعا، من غير عيب ولا برص * (آية أخرى) *. قال الله: * (فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملإه، إنهم كانوا قوما فاسقين) *. * (لنريك من آياتنا الكبرى) * أي: فعلنا ما ذكرنا، من انقلاب العصا حية تسعى، ومن خروج اليد بيضاء للناظرين، لأجل أن نريك من آياتنا الكبرى، الدالة على صحة رسالتك، وحقيقة ما جئت به، فيطمئن قلبك، ويزداد علمك، وتثق بوعد الله لك، بالحفظ والنصرة، ولتكون حجة وبرهانا، لمن أرسلت إليهم. * (اذهب إلى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) * لما أوحى الله إلى موسى، ونبأه، وأراه الآيات الباهرات، أرسله إلى فرعون، ملك مصر فقال: * (اذهب إلى فرعون إنه طغى) * أي: تمرد وزاد على الحد، في الكفر والفساد، والعلو في الأرض، والقهر للضعفاء، حتى إنه ادعى الربوبية والألوهية، قبحه الله، أي: وطغيانه سبب لهلاكه. ولكن من رحمة الله، وحكمته، وعدله، أنه لا يعذب أحدا، إلا بعد قيام الحجة بالرسل، فحينئذ علم موسى عليه السلام، أنه تحمل حملا عظيما، حيث أرسل إلى هذ الجبار العنيد، الذي ليس له منازع في مصر من الخلق، وموسى عليه السلام، وحده، وقد جرى منه ما جرى من القتل، فامتثل أمر ربه، وتلقاه بالانشراح والقبول، وسأله المعونة، وتيسير الأسباب، التي هي من تمام الدعوة فقال: * (رب اشرح لي صدري) * أي: وسعه وأفسحه، لأتحمل الأذى القولي والفعلي، ولا يتكدر قلبي بذلك، ولا يضيق صدري، فإن الصدر إذا ضاق، لم يصلح صاحبه لهداية الخلق، ودعوتهم. قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: * (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) * وعسى الخلق يقبلون الحق مع الليل وسعة الصدر وانشراحه عليهم. * (ويسر لي أمري) * أي: سهل علي كل أمر أسلكه وكل طريق أقصده في سبيلك، وهون علي ما أمامي من الشدائد، ومن تيسير الأمر، أن ييسر للداعي، أن يأتي جميع الأمور من أبوابها، ويخاطب كل أحد بما يناسب له، ويدعوه بأقرب الطرق الموصلة إلى قبول قوله. * (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) * وكان في لسانه ثقل لا يكاد يفهم عنه الكلام، كما قال المفسرون، وكما قال الله عنه أنه قال: * (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا) * فسأل الله أن يحل منه عقدة، يفقهوا ما يقول فيحصل المقصود التام من المخاطبة، والمراجعة، والبيان عن المعاني. * (واجعل لي وزيرا من أهلي) * أي: معينا يعاونني، ويؤازرني، ويساعدني على من أرسلت إليهم، وسأل أن يكون من أهله، لأنه من باب
(٥٠٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 499 500 501 502 503 504 505 506 507 508 509 ... » »»