تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٩٤
غفلة عن هذا الأمر العظيم لا يخطر بقلوبهم، ولو خطر، فعلى سبيل الغفلة، قد عمتهم الغفلة وشملتهم السكرة، فهم لا يؤمنون بالله، ولا يتبعون رسله، قد ألهتهم دنياهم، وحالت بينهم وبين الإيمان، شهواتهم المنقضية الفانية، فالدنيا وما فيها، من أولها إلى آخرها، ستذهب عن أهلها، ويذهبون عنها، وسيرث الله الأرض ومن عليها، ويرجعهم إليه، فيجازيهم بما عملوا فيها، وما خسروا فيها أو ربحوا، فمن عمل خيرا، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه. * (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا * إذ قال لأبيه يأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا * يأبت إني قد جآءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا * يأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحم ن عصيا * يأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحم ن فتكون للشيطان وليا * قال أراغب أنت عن آلهتي يإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا * وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعآء ربي شقيا * فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا * ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا) * أجل الكتب وأفضلها وأعلاها، هذا الكتاب المبين، والذكر الحكيم، فإن ذكر فيه الأخبار، كانت أصدق الأخبار، وأحقها، وأنفعها، وإن ذكر فيه الأمر والنهي، كانت أجل الأوامر والنواهي، وأعدلها وأقسطها، وإن ذكر فيه الجزاء، والوعد والوعيد، كان أصدق الأنباء وأحقها وأدلها على الحكمة، والعدل والفضل، وإن ذكر فيه الأنبياء والمرسلون، كان المذكور فيه، أكمل من غيره، وأفضل، ولهذا كثيرا ما يبدىء ويعيد في قصص الأنبياء، الذين فضلهم على غيرهم، ورفع قدرهم، وأعلى أمرهم، بسبب ما قاموا به، من عبادة الله ومحبته، والإنابة إليه، والقيام بحقوقه، وحقوق العباد، ودعوة الخلق إلى الله، والصبر على ذلك، والمقامات الفاخرة، والمنازل العالية. فذكر الله في هذه السورة، جملة من الأنبياء، يأمر الله رسوله أن يذكرهم، لأن في ذكرهم إظهار الثناء على الله وعليهم، وبيان فضله وإحسانه إليهم، وفيه الحث على الإيمان بهم، ومحبتهم، والاقتداء بهم، فقال: * (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا) * جمع الله له بين الصديقية والنبوة. فالصديق: كثير الصدق، فهو الصادق في أقواله، وأفعاله، وأحواله المصدق بكل ما أمر بالتصديق به، وذلك يستلزم العلم العظيم الواصل إلى القلب، المؤثر فيه، الموجب لليقين، والعمل الصالح الكامل، وإبراهيم عليه السلام، هو أفضل الأنبياء كلهم، بعد محمد صلى الله عليه وسلم. وهو الأب الثالث للطوائف الفاضلة، وهو الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، وهو الذي دعا الخلق إلى الله، وصبر على ما ناله من العذاب العظيم، فدعا القريب والبعيد، واجتهد في دعوة أبيه، مهما أمكنه. وذكر الله مراجعته إياه فقال: * (إذ قال لأبيه) * مهجنا له عبادة الأوثان * (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) *، أي: لم تعبد أصناما، ناقصة في ذاتها، وفي أفعالها، فلا تسمع، ولا تبصر، ولا تملك لعابدها، نفعا ولا ضرا، بل لا تملك لأنفسها شيئا من النفع، ولا تقدر على شيء من الدفع، فهذا برهان جلي دال، على أن عبادة الناقص، في ذاته، وأفعاله، مستقبح، عقلا وشرعا. ودل تنبيهه وإشارته، أن الذي يجب، ويحسن، عبادة من له الكمال الذي، لا ينال العباد نعمة إلا منه، ولا يدفع عنهم نقمة، إلا هو، وهو الله تعالى. * (يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك) * أي: يا أبت لا تحقرني وتقول: إني ابنك، وإن عندك ما ليس عندي، بل قد أعطاني الله من العلم، ما لم يعطك، والمقصود من هذا قوله: * (فاتبعني أهدك صراطا سويا) * أي: مستقيما معتدلا، وهو: عبادة الله وحده لا شريك له، وطاعته في جميع الأحوال، وفي هذا من لطف الخطاب ولينه، ما لا يخفى، فإنه لم يقل (يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل) أو (ليس عندك من العلم شيء)، وإنما أتى بصيغة أن عندي وعندك علما، وأن الذي وصل إلي لم يصل إليك، ولم يأتك، فينبغي لك أن تتبع الحجة، وتنقاد لها. * (يا أبت لا تعبد الشيطان) * لأن من عبد غير الله، فقد عبد الشيطان كما قال تعالى: * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) *. * (إن الشيطان كان للرحمن عصيا) * فمن اتبع خطواته، فقد اتخذه وليا وكان عاصيا لله بمنزلة الشيطان. وفي ذكر إضافة العصيان إلى اسم الرحمن، إشارة إلى أن المعاصي، تمنع العبد من رحمة الله، وتغلق عليه أبوابها، كما أن الطاعة، أكبر الأسباب لنيل رحمته، ولهذا قال: * (يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) * أي: بسبب إصرارك على الكفر، وتماديك في الطغيان * (فتكون للشيطان وليا) * أي: في الدنيا والآخرة، فتنزل بمنازله
(٤٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 489 490 491 492 493 494 495 496 497 498 499 ... » »»