الأكباد والقلوب، ومن شدة ذلك، أن المعذب فيها، لا يموت ولا يحيا، لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة يتلذذ بها، وإنما حياته، محشوة بعذاب القلب، والروح، والبدن، الذي لا يقدر قدره، ولا يفتر عنه ساعة، يستغيث فلا يغاث، ويدعو فلا يستجاب له. نعم إذا استغاث، أغيث بماء كالمهل، يشوي الوجوه، وإذا دعا، أجيب ب * (اخسؤوا فيها ولا تكلمون) *. ومن يأت ربه مؤمنا به مصدقا لرسله، متبعا لكتبه * (قد عمل الصالحات) * الواجبة والمستحبة، * (فأولئك لهم الدرجات العلى) * أي: المنازل العاليات، في الغرف المزخرفات، واللذات المتواصلات، والأنهار السارحات، والخلود الدائم، والسرور العظيم، فيما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. * (وذلك) * الثواب، * (جزاء من تزكى) * أي: تطهر من الشرك، والكفر، والفسوق، والعصيان، إما أن لا يفعلها بالكلية، أو يتوب مما فعله منها، وزكى أيضا نفسه، ونماها بالإيمان والعمل الصالح، فإن للتزكية معنيين، التنقية، وإزالة الخبث، والزيادة بحصول الخير، وسميت الزكاة زكاة، لهذين الأمرين. * (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى) * لما ظهر موسى بالبراهين، على فرعون وقومه، مكث في مصر، يدعوهم إلى الإسلام، ويسعى في تخليص بني إسرائيل، من فرعون، وعذابه، وفرعون في عتو ونفور، وأمره شديد على بني إسرائيل، ويريه الله من الآيات، والعبر، ما قصه الله علينا في القرآن. وبنو إسرائيل، لا يقدرون أن يظهروا إيمانهم ويعلنوه، قد اتخذوا بيوتهم مساجد، وصبروا على فرعون وأذاه. فأرادا تعالى أن ينجيهم من عدوهم، ويمكن لهم في الأرض، ليعبدوه جهرا، ويقيموا أمره. فأوحى إلى نبيه موسى، أن يواعد بني إسرائيل سرا، ويسروا أول الليل، ليتمادوا في الأرض، وأخبره أن فرعون وقومه، سيتبعونه. فخرجوا أول الليل، جميع بني إسرائيل، ونساؤهم، وذريتهم، فلما أصبح أهل مصر إذا هم، ليس فيها منهم، داع ولا مجيب، فحنق عليهم، عدوهم فرعون، وأرسل في المدائن، من يجمع له الناس ويحضهم على الخروج في أثر بني إسرائيل، فأتبعوهم مشرقين. * (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون) * وقلقوا وخافوا. البحر أمامهم، وفرعون من ورائهم، قد امتلأ عليهم غيظا وحنقا. وموسى مطمئن القلب، ساكن البال، قد وثق بوعد ربه فقال: * (كلا إن معي ربي سيهدين) *. فأوحى الله إليه أن يضرب الحجر بعصاه، فضربه، فانفرق اثنى عشر طريقا، وصار الماء كالجبال العالية، عن يمين الطرق ويسارها، وأيبس الله طرقهم، التي انفرق عنها الماء، وأمرهم الله أن لا يخافوا من إدراك فرعون، ولا يخشوا من الغرق في البحر فسلكوا في تلك الطرق، فجاء فرعون وجنوده، فسلكوا وراءهم، حتى إذا تكامل قوم موسى خارجين وقوم فرعون داخلين، أمر الله البحر، فالتطم عليهم، وغشيهم من اليم ما غشيهم، وغرقوا كلهم، ولم ينج منهم أحد، وبنو إسرائيل ينظرون إلى عدوهم، قد أقر الله أعينهم بهلاكه. وهذه عاقبة الكفر والضلال، وعدم الاهتداء بهدى الله، ولهذا قال تعالى: * (وأضل فرعون قومه) * بما زين لهم من الكفر، وتهجين ما أتى به موسى، واستخفافه إياهم، وما هداهم في وقت من الأوقات، فأوردهم موارد الغي والضلال، ثم أوردهم مورد العذاب والنكال. * (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) * يذكر تعالى بني إسرائيل منته العظيمة عليهم بإهلاك عدوهم، ومواعدته لموسى عليه السلام بجانب الطور الأيمن، لينزل عليه الكتاب، الذي فيه الأحكام الجليلة، والأخبار الجميلة، فتتم عليهم النعمة الدينية، بعد النعمة الدنيوية، ويذكر منته أيضا عليهم، في التيه، بإنزال المن والسلوى، والرزق الرغد الهني، الذي يحصل لهم بلا مشقة، وأنه قال لهم: * (كلوا من طيبات ما رزقناكم) * أي: واشكروه على ما
(٥١٠)