الذميمة، وترتع في مراتعه الوخيمة، فتدرج الخليل عليه السلام بدعوة أبيه، بالأسهل فالأسهل، فأخبره بعلمه، وأن ذلك، موجب لاتباعك إياي وأنك إن أطعتني، اهتديت إلى صراط مستقيم، ثم نهاه عن عبادة الشيطان، وأخبره بما فيها من المضار، ثم حذره عقاب الله ونقمته، إن أقام على حاله، وأنه يكون وليا للشيطان، فلم ينجع هذا الدعاء، بذلك الشقي، فأجاب بجواب جاهل وقال: * (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) * فتبجح بآلهته، التي هي من الحجر والأصنام، ولام إبراهيم عن رغبته عنها، وهذا من الجهل المفرط، والكفر الوخيم، يتمدح بعبادة الأوثان، ويدعو إليها. * (لئن لم تنته) * أي: عن شتم آلهتي، ودعوتي إلى عبادة الله * (لأرجمنك) * أي: قتلا بالحجارة * (واهجرني مليا) * أي: لا تكلمني زمانا طويلا. فأجابه الخليل، جواب عباد الرحمن عند خطاب الجاهلين، ولم يشتمه بل صبر، ولم يقابل أباه بما يكره، وقال: * (سلام عليك) * أي: ستسلم من خطابي إياك بالشتم والسب، وبما تكره. * (سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا) * أي: لا أزال أدعو الله لك بالهداية والمغفرة، بأن يهديك للإسلام، الذي به تحصل المغفرة. ف * (إنه كان بي حفيا) * أي: رحيما رؤوفا بحالي، معتنيا بي، فلم يزل يستغفر الله له، رجاء أن يهديه الله، فلما تبين له أنه عدو الله، وأنه لا يفيد فيه شيئا، ترك الاستغفار له، وتبرأ منه. وقد أمرنا الله باتباع ملة إبراهيم، فمن اتباع ملته، سلوك طريقه في الدعوة إلى الله، بطريق العلم والحكمة، واللين والسهولة، والانتقال من رتبة إلى رتبة، والصبر على ذلك، وعدم السآمة منه، والصبر على ما ينال الداعي من أذى الخلق، بالقول والفعل، ومقابلة ذلك، بالصفح، والعفو، بل بالإحسان القولي والفعلي. فلما أيس من قومه وأبيه قال: * (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) * أي: أنتم وأصنامكم * (وأدعو ربي) * وهذا شامل لدعاء العبادة، ودعاء المسألة * (عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا) * أي: عسى الله أن يسعدني، بإجابة دعائي، وقبول أعمالي، وهذه وظيفة من أيس ممن دعاهم، فاتبعوا أهواءهم، فلم تنجع فيهم المواعظ، فأصروا في طغيانهم يعمهون. فمن وقع في هذه الحال فعليه أن يشتغل بإصلاح نفسه، ويرجو القبول من ربه، ويعتزل الشر وأهله. ولما كان مفارقة الإنسان لوطنه ومألفه وأهله وقومه، من أشق شيء على النفس، لأمور كثيرة معروفة، ومنها انفراده عمن يتعزز بهم ويتكثر وكان من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، واعتزل إبراهيم قومه، قال الله في حقه: * (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا) * من إسحق ويعقوب * (جعلنا نبيا) * فحصل له ولهؤلاء الصالحين المرسلين إلى الناس، الذين خصهم الله بوحيه، واختارهم لرسالته واصطفاهم من العالمين. * (ووهبنا لهم) * أي: لإبراهيم وابنيه، إسحق ويعقوب * (من رحمتنا) * وهذا يشمل جميع ما وهب الله لهم من الرحمة، من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والذرية الكثيرة المنتشرة، الذين قد كثر فيهم الأنبياء والصالحون. * (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) * وهذا أيضا من الرحمة التي وهبها لهم، لأن الله وعد كل محسن، أن ينشر له ثناء صادقا بحسب إحسانه، وهؤلاء من أئمة المحسنين، فنشر الله الثناء الحسن الصادق، غير الكاذب، العالي غير الخفي فذكرهم ملأ الخافقين، والثناء عليهم ومحبتهم، امتلأت بها القلوب، وفاضت به الألسنة فصاروا قدوة للمقتدين، وأئمة للمهتدين، ولا تزال أذكارهم في سائر العصور، متجددة، وذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. * (واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) * أي: واذكر في هذا القرآن العظيم، موسى بن عمران، على وجه التبجيل له والتعظيم، والتعريف بمقامه الكريم، وأخلاقه الكاملة. * (إنه كان مخلصا) * وقرئ بفتح اللام، على معنى أن الله تعالى اختاره واستخلصه، واصطفاه على العالمين. وقرئ بكسرها، على معنى أنه كان مخلصا لله تعالى، في جميع أعماله، وأقواله، ونياته، فوصفه بالإخلاص في جميع أحواله، والمعنيان متلازمان، فإن الله أخلصه، لإخلاصه، وإخلاصه، موجب لاستخلاصه. وأجل حالة يوصف بها العبد، الإخلاص منه، والاستخلاص من ربه. * (وكان رسولا نبيا) * أي: جمع الله له بين الرسالة والنبوة، فالرسالة تقتضي تبليغ كلام المرسل، وتبليغ جميع ما جاء به من
(٤٩٥)