تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٩٣
ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) * أي: من فضل ربي وكرمه، حصلت لي السلامة يوم ولادتي، ويوم بعثي من الشر، والشيطان والعقوبة، وذلك يقتضي سلامته من الأهوال، ودار الفجار، وأنه من أهل دار السلام، فهذه معجزة عظيمة، وبرهان باهر، على أنه رسول الله، وعبد الله حقا. * (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربي وربكم فاعبدوه ه ذا صراط مستقيم) * أي: ذلك الموصوف بتلك الصفات، عيسى بن مريم، من غير شك ولا مرية، بل قول الحق، وكلام الله، الذي لا أصدق منه قيلا، ولا أحسن منه حديثا، فهذا الخبر اليقيني، عن عيسى عليه السلام، وما قبل فيه مما يخالف هذا، فإنه مقطوع ببطلانه، وغايته أن يكون شكا من قائله لا علم له به، ولهذا قال: * (الذي فيه يمترون) * أي: يشكون فيمارون بشكهم، ويجادلون بخرصهم، فمن قائل عنه: إنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن إفكهم وتقولهم، علوا كبيرا. ف * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * أي: ما ينبغي ولا يليق، لأن ذلك من الأمور المستحيلة، لأنه الغني الحميد، المالك لجميع الممالك، فكيف يتخذ من عباده ومماليكه ولدا؟ * (سبحانه) * أي: تنزه وتقدس عن الولد والنقص. * (إذا قضى أمرا) * أي: من الأمور الصغار والكبار، لم يمتنع، عليه ولم يستصعب * (فإنما يقول له كن فيكون) *، فإذا كان قدره ومشيئته نافذا في العالم العلوي والسفلي، فكيف يكون له ولد؟ وإذا كان إذا أراد شيئا قال له: * (كن، فيكون) * فكيف يستبعد إيجاده عيسى من غير أب؟!! ولهذا أخبر عيسى أنه عبد مربوب كغيره فقال: * (وإن الله ربي وربكم) * الذي خلقنا، وصورنا، ونفذ فينا تدبيره، وصرفنا تقديره. * (فاعبدوه) * أي: أخلصوا له العبادة، واجتهدوا في الإنابة، وفي هذا، الإقرار بتوحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، والاستدلال بالأول على الثاني، ولهذا قال: * (هذا صراط مستقيم) * أي: طريق معتدل، موصل إلى الله، لكونه طريق الرسل وأتباعهم، وما عدا هذا، فإنه من طرق الغي والضلال. * (فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم * أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ل كن الظالمون اليوم في ضلال مبين) * لما بين تعالى حال عيسى بن مريم الذي لا يشك فيها ولا يمترى، أخبر أن الأحزاب، أي: فرق الضلال، من اليهود والنصارى وغيرهم، على اختلاف طبقاتهم اختلفوا في عيسى عليه السلام، فمن غال فيه وجاف. فمنهم من قال: إنه الله، ومنهم، من قال: إنه ابن الله. ومنهم من قال: إنه ثالث ثلاثة. ومنهم من لم يجعله رسولا، بل رماه بأنه ولد بغي كاليهود. وكل هؤلاء أقوالهم باطلة، وآراؤهم فاسدة، مبنية على الشك والعناد، والأدلة الفاسدة، والشبه الكاسدة، وكل هؤلاء مستحقون للوعيد الشديد، ولهذا قال: * (فويل للذين كفروا) * بالله ورسله، وكتبه. ويدخل فيهم، اليهود والنصارى، القائلون بعيسى قول الكفر. * (من مشهد يوم عظيم) * أي: مشهد يوم القيامة، الذي يشهده الأولون والآخرون، أهل السماوات، وأهل الأرض، الخالق والمخلوق، الممتلىء بالزلازل والأهوال المشتمل على الجزاء بالأعمال، فحينئذ يتبين ما كانوا يخفون ويبدون، وما كانوا يكتمون. * (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) * أي: ما أسمعهم وما أبصرهم في ذلك اليوم؟ فيقررون بكفرهم وشركهم، وأقوالهم ويقولون: * (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) * ففي القيامة، يستيقنون حقيقة ما هم عليه. * (لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) * وليس لهم عذر في هذا الضلال، لأنهم بين معاند ضال على بصيرة، عارف بالحق، صادف عنه، وبين ضال عن طريق الحق، متمكن من معرفة الحق والصواب، ولكنه راض بضلاله وما هو عليه من سوء أعماله، غير ساع في معرفة الحق من الباطل، وتأمل كيف قال: * (فويل للذين كفروا) * بعد قوله: * (فاختلف الأحزاب من بينهم) *، ولم يقل (فويل لهم) ليعود الضمير إلى الأحزاب، لأن من الأحزاب المختلفين، طائفة أصابت الصواب، ووافقت الحق فقالت في عيسى: (إنه عبد الله ورسوله) فآمنوا به، واتبعوه، فهؤلاء مؤمنون، غير داخلين في هذا الوعيد، فلهذا خص الله بالوعيد الكافرين. * (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون * إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون) * الإنذار هو: الإعلام بالمخوف على وجه الترهيب، والإخبار بصفاته، وأحق ما ينذر به ويخوف به العباد، يوم الحسرة حين يقضي الأمر، فيجمع الأولون والآخرون في موقف واحد، ويسألون عن أعمالهم، فمن آمن بالله، واتبع رسله، سعد سعادة لا يشقى بعدها، ومن لم يؤمن بالله ويتبع رسله شقي شقاء لا يسعد بعدها، وخسر نفسه وأهله، فحينئذ يتحسر ويندم ندامة، تنقطع منها القلوب، وتتصدع منها الأفئدة، وأي: حسرة أعظم من فوات رضا الله وجنته، واستحقاق سخطه والنار، على وجه لا يتمكن الرجوع، ليستأنف العمل ولا سبيل له إلى تغيير حاله بالعودة إلى الدنيا؟ فهذا قدامهم، والحال أنهم في الدنيا في
(٤٩٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 488 489 490 491 492 493 494 495 496 497 498 ... » »»