تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٨٦
تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) * أي: إما أن تعذبهم، بقتل، أو ضرب، أو أسر ونحوه، وإما أن تحسن إليهم فخير بين الأمرين، لأن الظاهر أنهم كفار، أو فساق، أو فهيم شيء من ذلك، لأنهم لو كانوا مؤمنين غير فساق، لم يرخص له في تعذيبهم، فكان عند ذي القرنين من السياسة الشرعية، ما استحق به المدح والثناء، لتوفيق الله له لذلك، فقال: سأجعلهم قسمين. * (أما من ظلم) * (بالكفر) * (فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا) * أي: تحصل له العقوبتان، عقوبة الدنيا، وعقوبة الآخرة. * (وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى) * أي: فله الجنة والحالة الحسنة عند الله جزاء يوم القيامة. * (وسنقول له من أمرنا يسرا) * أي: وسنحسن إليه، ونلطف له بالقول، ونيسر له المعاملة، وهذا يدل على كونه من الملوك الصالحين الأولياء، العادلين العالمين، حيث وافق مرضاة الله في معاملة كل أحد، بما يليق بحاله. * (ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا * كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا * ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا * قالوا يذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا * قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما * آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا * قال ه ذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكآء وكان وعد ربي حقا) * أي: لما وصل إلى مغرب الشمس كر راجعا، قاصدا مطلعها، متبعا للأسباب، التي أعطاه الله، فوصل إلى مطلع الشمس ف * (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا) * أي: وجدها تطلع على أناس ليس لهم ستر من الشمس، إما لعدم استعدادهم في المساكن، وذلك لزيادة همجيتهم وتوحشهم، وعدم تمدنهم، وإما لكون الشمس دائمة عندهم، لا تغرب غروبا يذكر، كما يوجد ذلك في شرقي أفريقيا الجنوبي، فوصل إلى موضع انقطع عنه علم أهل الأرض، فضلا عن وصولهم إليه بأبدانهم، ومع هذا، فكل هذا بتقدير الله له، وعلمه به، ولهذا قال: * (كذلك وقد أحطنا) * بما عنده من الخير والأسباب العظيمة وعلمنا معه، حيثما توجه وسار. * (ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين) * قال المفسرون: ذهب متوجها من المشرق، قاصدا للشمال، فوصل إلى ما بين السدين، وهما سدان، كانا معروفين في ذلك الزمان، سدان من سلاسل الجبال، المتصلة يمنة ويسرة حتى تتصل بالبحار، بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وجد من دون السدين قوما، لا يكادون يفقهون قولا، لعجمة ألسنتهم، واستعجام أذهانهم وقلوبهم، وقد أعطى الله ذا القرنين، من الأسباب العلمية، ما فقه به ألسنة أولئك القوم، ووفقهم، وراجعهم، وراجعوه، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج، وهما: أمتان عظيمتان من بني آدم فقالوا: * (إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض) * بالقتل وأخذ الأموال وغير ذلك. * (فهل نجعل لك خرجا) * أي: جعلا * (على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) *، ودل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم، على بنيان السد، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه، فبذلوا له أجرة، ليفعل ذلك، وذكروا له السبب الداعي، وهو: إفسادهم في الأرض. فلم يكن ذو القرنين ذا طمع، ولا رغبة في الدنيا، ولا تاركا لإصلاح أحوال الرعية. بل قصده الإصلاح، فلذلك أجاب طلباتهم، لما فيها من المصلحة، ولم يأخذ منهم أجرة، وشكر ربه على تمكينه واقتداره، فقال لهم: * (ما مكني فيه ربي خير) * أي: مما تبذلون لي وتعطوني، وإنما أطلب منكم أن تعينوني بقوة منكم بأيديكم * (أجعل بينكم وبينهم ردما) * أي: مانعا من عبورهم عليكم. * (آتوني زبر الحديد) * أي: قطع الحديد، فأعطوه ذلك. * (حتى إذا ساوى بين الصدفين) * أي: الجبلين اللذين بني بينهما السد * (قال انفخوا) * أي: أوقدوها إيقادا عظيما، واستعملوا لها المنافيخ، لتشتد، فتذيب النحاس، فلما ذاب النحاس، الذي يريد أن يلصقه بين زبر الحديد * (قال آتوني أفرغ عليه قطرا) * أي: نحاسا مذابا، فأفرغ عليه القطر، فاستحكم السد استحكاما هائلا، وامتنع به من وراءه من الناس، من ضرر يأجوج ومأجوج. * (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا) * أي: فما لهم استطاعة، ولا قدرة على الصعود عليه، لارتفاعه، ولا على نقبه لإحكامه وقوته، فلما فعل هذا الفعل الجميل والأثر الجليل، أضاف النعمة إلى موليها وقال: * (هذا رحمة من ربي) * أي: من فضله وإحسانه علي. وهذه حال الخلفاء والصالحين، إذا من الله عليهم بالنعم الجليلة، ازداد شكرهم وإقرارهم، واعترافهم بنعمة الله كما
(٤٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 481 482 483 484 485 486 487 488 489 490 491 ... » »»