تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٢٩
الأخلاق والأعمال وأفضلها، ولا يستدل على ذلك إلا بأقوى الأدلة وأبينها. وهذه القاعدة إذا تدرب بها العبد الذكي، لم يزل في صعود ورقي على الدوام في كل خصلة حميدة. والحمد لله رب العالمين. سورة الحجر * (الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) * يقول تعالى معظما لكتابه، مادحا له: * (تلك آيات الكتاب) * أي: الآيات الدالة على أحسن المعاني، وأفضل المطالب، * (وقرآن مبين) * للحقائق، بأحسن لفظ وأوضحه، وأدلة على المقصود، وهذا مما يوجب على الخلق، الانقياد إليه، والتسليم لحكمه وتلقيه بالقبول، والفرح والسرور. فأما من قابل هذه النعمة العظيمة بردها، والكفر بها، فإنه من المكذبين الضالين، الذين سيأتي عليهم وقت، يتمنون أنهم مسلمون، أي: منقادون لأحكامه، وذلك حين ينكشف الغطاء، وتظهر أوائل الآخرة، ومقدمات الموت. فإنهم في أحوال الآخرة كلها، يتمنون أنهم مسلمون، وقد فات وقت الإمكان، ولكنهم في هذه الدنيا مغترون. * (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا) * بلذاتهم * (ويلههم الأمل) * أي: يؤملون البقاء في الدنيا، فيلهيهم عن الآخرة. * (فسوف يعلمون) * أن ما هم عليه باطل، وأن أعمالهم ذهبت خسرانا عليهم، ولا يغتروا بإمهال الله تعالى، فإن هذه سنته في الأمم. * (وما أهلكنا من قرية) * كانت مستحقة للعذاب * (إلا ولها كتاب معلوم) * مقدر لإهلاكها. * (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) * وإلا، فالذنوب، لا بد من وقوع أثرها، وإن تأخر. * (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * أي: وقال المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم، استهزاء وسخرية: * (يا أيها الذين نزل عليه الذكر) * على زعمك * (إنك لمجنون) * إذ تظن أنا سنتبعك، ونترك ما وجدنا عليه آباءنا، لمجرد قولك. * (لو ما تأتينا بالملائكة) * يشهدون لك بصحة ما جئت به * (إن كنت من الصادقين) * فلما لم تأت بالملائكة، فلست بصادق. وهذا من أعظم الظلم والجهل. أما الظلم، فظاهر، فإن هذا تجرؤ على الله وتعنت بتعيين الآيات، التي لم يخترها، وحصل المقصود والبرهان بدونها، من الآيات الكثيرة، الدالة على صحة ما جاء به، وأما الجهل، فإنهم جهلوا مصلحتهم من مضرتهم، فليس في إنزال الملائكة، خير لهم، بل لا ينزل الله الملائكة إلا بالحق الذي لا إمهال على من لم يتبعه وينقد له. * (وما كانوا إذا) * أي: حين تنزل الملائكة، إن لم يؤمنوا، ولن يؤمنوا * (منظرين) * أي: بممهلين، فصار طلبهم لإنزال الملائكة، تعجيلا لأنفسهم بالهلاك والدمار، فإن الإيمان ليس في أيديهم، وإنما هو بيد الله، * (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله، ولكن أكثرهم يجهلون) * ويكفيهم من الآيات، إن كانوا صادقين، هذا القرآن العظيم ولهذا قال هنا: * (إنا نحن نزلنا الذكر) * أي: القرآن الذي فيه ذكرى لكل شيء، من المسائل والدلائل الواضحة، وفيه يتذكر من أراد التذكر، * (وإنا له لحافظون) * أي: في حال إنزاله، وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حافظون له، من استراق كل شيطان رجيم. وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله، واستودعه في قلوب أمته، وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها، والزيادة والنقص، ومعانيه، من التبديل، فلا يحرف محرف معنى من معانيه، إلا وقيض الله له من يبين الحق المبين، وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين، ومن حفظه: أن الله يحفظ أهله من أعدائهم، ولا يسلط عدوا يجتاحهم. * (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين * وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون * كذلك نسلكه في قلوب المجرمين * لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين) * يقول تعالى لنبيه إذ كذبه المشركون: لم يزل هذا دأب الأمم الخالية والقرون الماضية: * (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين) *، أي: فرقهم وجماعتهم، رسلا. * (وما يأتيهم من رسول) * يدعوهم إلى الحق والهدى * (إلا كانوا به يستهزئون) *، * (كذلك نسلكه) * أي: ندخل التكذيب * (في قلوب المجرمين) * أي: الذين وصفهم الظلم والبهت، عاقبناهم لما تشابهت قلوبهم بالكفر والتكذيب، وتشابهت معاملتهم
(٤٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 424 425 426 427 428 429 430 431 432 433 434 ... » »»