تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٣٢
عذابي هو العذاب الأليم) * يقول تعالى: * (إن المتقين) * الذين اتقوا طاعة الشيطان، وما يدعوهم إليه، من جميع الذنوب والعصيان * (في جنات وعيون) * قد احتوت على جميع الأشجار، وأينعت فيها جميع الثمار اللذيذة، في جميع الأوقات. ويقال لهم حال دخولها: * (ادخلوها بسلام آمنين) * من الموت، والنوم والنصب، واللغوب، وانقطاع شيء من النعيم، الذي هم فيه أو نقصانه، ومن المرض، والحزن، والهم، وسائر المكدرات، * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) * فتبقى قلوبهم سالمة، من كل غل وحسد، متصافية متحابة * (إخوانا على سرر متقابلين) *. دل ذلك على تزاورهم، واجتماعهم، وحسن أدبهم فيما بينهم، في كون كل منهم مقابلا للآخر، لا مستدبرا له، متكئين على تلك السرر المزينة، بالفرش واللؤلؤ، وأنواع الجواهر. * (لا يمسهم فيها نصب) * لا ظاهر ولا باطن، وذلك لأن الله ينشئهم نشأة وحياة كاملة، لا تقبل شيئا من الآفات، * (وما هم منها بمخرجين) * على سائر الأوقات. ولما ذكر ما يوجب الرغبة والرهبة، من مفعولات الله، من الجنة، والنار، ذكر ما يوجب ذلك من أوصافه تعالى فقال: * (نبىء عبادي) * أي: أخبرهم خبرا جازما، مؤيدا بالأدلة، * (إني أنا الغفور الرحيم) * فإنهم إذا عرفوا كمال رحمته ومغفرته، سعوا بالأسباب الموصلة لهم إلى رحمته، وأقلعوا عن الذنوب، وتابوا منها، لينالوا مغفرته. ومع هذا، فلا ينبغي أن يتمادى بهم الرجاء إلى حال الأمن والإدلال، فنبئهم * (أن عذابي هو العذاب الأليم) * أي: لا عذاب في الحقيقة، إلا عذاب الله، الذي لا يقدر قدره، ولا يبلغ كنهه، نعوذ به من عذابه، فإنهم إذا عرفوا أنه * (لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد) * حذروا، وبعدوا عن كل سبب يوجب لهم العقاب، فالعبد ينبغي أن يكون قلبه دائما، بين الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، فإذا نظر إلى رحمة ربه ومغفرته، وجوده وإحسانه، أحدث له ذلك الرجاء والرغبة، وإذا نظر إلى ذنوبه وتقصيره في حقوق ربه، أحدث له الخوف والرهبة والإقلاع عنها. * (ونبئهم عن ضيف إبراهيم * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون * قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم * قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون * قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين * قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضآلون) * يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: * (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) *، أي: عن تلك القصة العجيبة، فإن في قصك عليهم أنباء الرسل، وما جرى لهم، ما يوجب لهم العبرة، والاقتداء بهم، خصوصا، إبراهيم الخليل، الذي أمرنا الله أن نتبع ملته، وضيفه هم: الملائكة الكرام، أكرمه الله بأن جعلهم أضيافه. * (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما) * أي: سلموا عليه، فرد عليهم * (قال: إنا منكم وجلون) * أي: خائفون، لأنه لما دخلوا عليه، وحسبهم ضيوفا، ذهب مسرعا إلى بيته، فأحضر لهم ضيافتهم، عجلا حنيذا فقدمه إليهم، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه، خاف منهم أن يكونوا لصوصا أو نحوهم. * (قالوا) * (له) * (لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم) * وهو: إسحق عليه الصلاة والسلام، تضمنت هذه البشارة، بأنه ذكر لا أنثى، عليم، أي: كثير العلم، وفي الآية الأخرى * (وبشرناه بإسحق نبيا من الصالحين) *. قال لهم متعجبا من هذه البشارة: * (أبشرتموني) * بالولد * (على أن مسني الكبر) * وصار نوع إياس منه * (فبم تبشرون) * أي: على أي وجه تبشرون وقد عدمت الأسباب؟ * (قالوا بشرناك بالحق) * الذي لا شك فيه، لأن الله على كل شيء قدير، وأنتم بالخصوص يا أهل هذا البيت رحمة الله وبركاته عليكم، فلا يستغرب فضل الله وإحسانه إليكم. * (فلا تكن من القانطين) * الذين يستبعدون وجود الخير، بل لا تزال راجيا لفضل الله وإحسانه، وبره وامتنانه، فأجابهم إبراهيم بقوله: * (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) * الذين لا علم لهم بربهم، وكمال اقتداره، وأما من أنعم الله عليه بالهداية والعلم العظيم، فلا سبيل إلى القنوط إليه، لأنه يعرف من كثرة الأسباب والوسائل والطرق، لرحمة الله، شيئا كثيرا، ثم لما بشروه بهذه البشارة، عرف أنهم مرسلون لأمر مهم. * (قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين * إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين * إلا امرأته قدرنآ إنها لمن الغابرين * فلما جاء آل لوط المرسلون * قال إنكم قوم منكرون * قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون * وآتيناك بالحق وإنا لصادقون * فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم
(٤٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 427 428 429 430 431 432 433 434 435 436 437 ... » »»