ولا تجعلوا حالنا، حجة لكم على رد ما جئناكم به، وقولكم: * (فائتونا بسلطان مبين) * فإن هذا ليس بأيدينا، وليس لنا من الأمر شيء. * (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله) * فهو الذي إن شاء جاءكم به، وإن شاء لم يأتكم به، وهو لا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته ورحمته، * (وعلى الله) * لا على غيره * (فليتوكل المؤمنون) * فيعتمدون عليه في جلب مصالحهم، ودفع مضارهم، لعلمهم بتمام كفايته، وكمال قدرته، وعميم إحسانه، ويثقون به، في تيسير ذلك، وبحسب ما معهم من الإيمان يكون توكلهم. فعلم بهذا، وجوب التوكل، وأنه من لوازم الإيمان، ومن العبادات الكبار، التي يحبها الله ويرضاها، لتوقف سائر العبادات عليه، * (وما لنا أن لا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا) *. أي: أي شيء يمنعنا من التوكل على الله، والحال، أننا على الحق والهدى، ومن كان على الحق والهدى، فإن هداه، يوجب له تمام التوكل، وكذلك ما يعلم من أن الله متكفل بمعونة المهتدي وكفايته، يدعو إلى ذلك، بخلاف من لم يكن على الحق والهدى، فإنه ليس ضامنا على الله، فإن حاله مناقضة لحال المتوكل. وفي هذا كالإشارة من الرسل، عليهم الصلاة والسلام لقومهم، بآية عظيمة، وهو أن قومهم في الغالب أن لهم القهر والغلبة عليهم، فتحدتهم رسلهم، بأنهم متوكلون على الله، في دفع كيدهم ومكرهم، وجازمون بكفايته إياهم، وقد كفاهم الله شرهم مع حرصهم على إتلافهم، وإطفاء ما معهم من الحق، فيكون هذا، كقول نوح لقومه: * (يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون) * الآيات. وقول هود عليه السلام: * (إني أشهد الله واشهدوا، أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) *. * (ولنصبرن على ما آذيتمونا) * أي: ولنستمرن على دعوتكم، ووعظكم، وتذكيركم، ولا نبالي بما يأتينا منكم، من الأذى، فإنا سنوطن أنفسنا على ما ينالنا منكم من الأذى، احتسابا للأجر، ونصحا لكم، لعل الله أن يهديكم مع كثرة التذكير. * (وعلى الله) * وحده لا على غيره * (فيتوكل المتوكلون) * فإن التوكل عليه، مفتاح لكل خير. واعلم أن الرسل، عليهم الصلاة والسلام، توكلهم في أعلى المطالب وأشرف المراتب، وهو التوكل على الله، في إقامة دينه ونصره، وهداية عبيده، وإزالة الضلال عنهم، وهذا أكمل ما يكون من التوكل. * (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجن كم من أرضنآ أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكنن كم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد * واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد * من ورآئه جهنم ويسقى من ماء صديد * يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورآئه عذاب غليظ) * لما ذكر دعوة الرسل لقومهم ودوامهم على ذلك، وعدم مللهم، ذكر منتهى ما وصلت بهم الحال، مع قومهم فقال: * (وقال الذين كفروا لرسلهم) * متوعدين لهم * (لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا) * وهذا أبلغ ما يكون من الرد، وليس بعد هذا فيهم مطمع، لأنه ما كفاهم أن أعرضوا عن الهدى، بل توعدوهم بالإخراج من ديارهم ونسبوها إلى أنفسهم، وزعموا أن الرسل، لا حق لهم فيها، وهذا من أعظم الظلم، فإن الله أخرج عباده إلى الأرض، وأمرهم بعبادته، وسخر لهم الأرض وما عليها، يستعينون بها على عبادته. فمن استعان بذلك على عبادة الله، حل له ذلك، وخرج من التبعة، ومن استعان بذلك على الكفر وأنواع المعاصي، لم يكن ذلك خالصا له، ولم يحل له، فعلم أن أعداء الرسل في الحقيقة، ليس لهم شيء من الأرض، التي توعدوا الرسل بإخراجهم منها. وإن رجعنا إلى مجرد العادة، فإن الرسل من جملة أهل بلادهم، وأفراد منهم، فلأي شيء يمنعونهم حقا لهم، صريحا واضحا؟ هل هذا إلا من عدم الدين والمروءة بالكلية؟ ولهذا لما انتهى مكرهم بالرسل إلى هذه الحال، ما بقي حينئذ، إلا أن يمضي الله أمره، وينصر أولياءه، * (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين) * بأنواع العقوبات. * (ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك) * أي: العاقبة الحسنة التي جعلها الله للرسل ومن تبعهم، جزاء * (لمن خاف مقامي) * عليه في الدنيا، وراقب الله مراقبة من يعلم أنه يراه، * (وخاف وعيد) * أي: ما توعدت به من عصاني، فأوجب له ذلك، الانكفاف عما يكرهه الله، والمبادرة إلى ما يحبه الله. * (واستفتحوا) * أي: الكفار، أي: هم الذين طلبوا، واستعجلوا فتح الله وفرقانه، بين أوليائه وأعدائه، فجاءهم ما استفتحوا به، وإلا فالله عليم حليم،
(٤٢٣)