تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٨
* (وما أنزل إلينا) * يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى: * (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) * فيدخل فيه الإيمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله من صفات الباري وصفات رسله واليوم الآخر والغيوب الماضية والمستقبلة والإيمان بما تضمنه ذلك من الأحكام الشرعية الأمرية وأحكام الجزاء وغير ذلك * (وما أنزل إلى إبراهيم) * إلى آخر الآية فيه الإيمان بجميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء والإيمان بالأنبياء عموما وخصوصا ما نص عليه في الآية لشرفهم ولإتيانهم بالشرائع الكبار فالواجب في الإيمان بالأنبياء والكتب أن يؤمن بهم على وجه العموم والشمول ثم ما عرف منهم بالتفصيل وجب الإيمان به مفصلا وقوله: * (لا نفرق بين أحد منهم) * أي: بل نؤمن بهم كلهم هذه خاصية المسلمين التي انفردوا بها عن كل من يدعي أنه على دين فاليهود والنصارى والصابئون وغيرهم - وإن زعموا أنهم يؤمنون بما يؤمنون به من الرسل والكتب - فإنهم يكفرون بغيره فيفرقون بين الرسل والكتب بعضها يؤمنون به وبعضها يكفرون به وينقض تكذيبهم تصديقهم فإن الرسول الذي زعموا أنهم قد آمنوا به قد صدق سائر الرسل وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم فإذا كذبوا محمدا فقد كذبوا رسولهم فيما أخبرهم به فيكون كفرا برسولهم وفي قوله: * (وما أوتي النبيون من ربهم) * دلالة على أن عطية الدين هي العطية الحقيقية المتصلة بالسعادة الدنيوية والأخروية لم يأمرنا أن نؤمن بما أوتي الأنبياء من الملك والمال ونحو ذلك بل أمرنا أن نؤمن بما أعطوا من الكتب والشرائع وفيه أن الأنبياء مبلغون عن الله ووسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ دينه وليس لهم من الأمر شيء وفي قوله: * (من ربهم) * إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده أن ينزل عليهم الكتب ويرسل إليهم الرسل فلا تقتضي ربوبيته تركهم سدى ولا هملا وإذا كان ما أوتي النبيون إنما هو من ربهم ففيه الفرق بين الأنبياء وبين من يدعي النبوة وأنه يحصل الفرق بينهم بمجرد معرفة ما يدعون إليه فالرسل لا يدعون إلا لخير ولا ينهون إلا عن كل شر وكل واحد منهم يصدق الآخر ويشهد له بالحق من غير تخالف ولا تناقض لكونه من عند ربهم * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * وهذا بخلاف من ادعى النبوة فلا بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم ونواهيهم كما يعلم ذلك من سبر أحوال الجميع وعرف ما يدعون إليه فلما بين تعالى جميع ما يؤمن به عموما وخصوصا وكان القول لا يغني عن العمل قال: * (ونحن له مسلمون) * أي: خاضعون لعظمته منقادون لعبادته بباطننا وظاهرنا مخلصون له العبادة بدليل تقديم المعمول وهو * (له) * على العامل وهو * (مسلمون) * فقد اشتملت هذه الآية الكريمة - على إيجازها واختصارها - على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات واشتملت على الإيمان بجميع الرسل وجميع الكتب وعلى التخصيص الدال على الفضل بعد التعميم وعلى التصديق بالقلب واللسان والجوارح والإخلاص لله في ذلك وعلى الفرق بين الرسل الصادقين ومن ادعى النبوة من الكاذبين وعلى تعليم الباري عباده كيف يقولون ورحمته وإحسانه عليهم بالنعم الدينية المتصلة بسعادة الدنيا والآخرة فسبحان من جعل كتابه تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (137) * (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) * أي: فإن آمن أهل الكتاب * (بمثل ما آمنتم به) * - يا معشر المؤمنين - من جميع الرسل وجميع الكتب الذين أول من دخل فيهم وأولى خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وأسلموا لله وحده ولم يفرقوا بين أحد من رسل الله * (فقد اهتدوا) * للصراط المستقيم الموصل لجنات النعيم أي: فلا سبيل لهم إلى الهداية إلا بهذا الإيمان لا كما زعموا بقولهم: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا فزعموا أن الهداية خاصة بما كانوا عليه والهدى هو العلم بالحق والعمل به وضده الضلال عن العلم والضلال عن العمل بعد العلم وهو الشقاق الذي كانوا عليه لما تولوا وأعرضوا فالمشاق: هو الذي يكون في شق والله ورسوله في شق ويلزم من المشاقة المحادة والعداوة البليغة التي من لوازمها بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول فلهذا وعد الله رسوله أن يكفيه إياهم لأنه السميع لجميع الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات العليم بما بين أيديهم وما خلفهم بالغيب والشهادة بالظواهر والبواطن فإذا كان كذلك كفاك الله شرهم وقد أنجز الله لرسوله وعده وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم وسبى بعضهم وأجلى بعضهم وشردهم كل مشرد ففيه معجزة من معجزات القرآن وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه فوقع طبق ما أخبر (138) * (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون) * أي: الزموا صبغة الله وهو دينه وقوموا به قياما تاما بجميع أعماله الظاهرة والباطنة وجميع عقائده في جميع الأوقات حتى يكون لكم صبغة وصفة من صفاتكم فإذا كان صفة من صفاتكم أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره طوعا واختيارا ومحبة وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ التام
(٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 ... » »»