تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٤
ومنها: أنه رد فيه جميع الاحتجاجات الباطلة التي أوردها أهل العناد وأبطلها شبهة شبهة كما تقدم توضيحها ومنها: أنه قطع الأطماع من اتباع الرسول قبلة أهل الكتاب ومنها قوله: * (وإنه للحق من ربك) * فمجرد إخبار الصادق العظيم كاف شاف ولكن مع هذا قال: * (وإنه للحق من ربك) * ومنها: أنه أخبر - وهو العالم بالخفيات - أن أهل الكتاب متقرر عندهم صحة هذا الأمر ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم ولما كان توليته لنا إلى استقبال القبلة نعمة عظيمة وكان لطفه بهذه الأمة ورحمته لم يزل يتزايد وكلما شرع لهم شريعة فهي نعمة عظيمة قال: * (ولأتم نعمتي عليكم) * فأصل النعمة الهداية لدينه بإرسال رسوله وإنزال كتابه ثم بعد ذلك النعم المتممات لهذا الأصل لا تعد كثرة ولا تحصر منذ بعث الله رسوله إلى أن قرب رحيله من الدنيا وقد أعطاه الله من الأحوال والنعم وأعطى أمته ما أتم به نعمته عليه وعليهم وأنزل الله عليه: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) * فلله الحمد على فضله الذي لا نبلغ له عدا فضلا عن القيام بشكره * (ولعلكم تهتدون) * أي: تعلمون الحق وتعملون به فالله تبارك وتعالى - من رحمته - بالعباد قد يسر لهم أسباب الهداية غاية التيسير ونبههم على سلوك طرقها وبينها لهم أتم تبيين حتى إن في جملة ذلك أنه يقيض للحق المعاندين له فيجادلون فيه فيتضح بذلك الحق وتظهر آياته وأعلامه ويتضح بطلان الباطل وأنه لا حقيقة له ولولا قيامه في مقابلة الحق لربما لم يتبين حاله لأكثر الخلق وبضدها تتبين الأشياء فلولا الليل ما عرف فضل النهار ولولا القبيح ما عرف فضل الحسن ولولا الظلمة ما عرف منفعة النور ولولا الباطل ما اتضح الحق اتضاحا ظاهرا فلله الحمد على ذلك (151 - 152) * (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) * يقول تعالى: إن إنعامنا عليكم باستقبال الكعبة وإتمامها بالشرائع والنعم المتممة ليس ذلك ببدع من إحساننا ولا بأوله بل أنعمنا عليكم بأصول النعم ومتمماتها فأبلغها إرسالنا إليكم هذا الرسول الكريم منكم تعرفون نسبه وصدقه وأمانته وكماله ونصحه * (يتلو عليكم آياتنا) * وهذا يعم الآيات القرآنية وغيرها فهو يتلو عليكم الآيات المبينة للحق من الباطل والهدى من الضلال التي دلتكم أولا على توحيد الله وكماله ثم على صدق رسوله ووجوب الإيمان به ثم على جميع ما أخبر به من المعاد والغيوب حتى حصل لكم الهداية التامة والعلم اليقيني * (ويزكيكم) * أي: يطهر أخلاقكم ونفوسكم بتربيتها على الأخلاق الجميلة وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة وذلك كتزكيتهم من الشرك إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الكذب إلى الصدق ومن الخيانة إلى الأمانة ومن الكبر إلى التواضع ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق ومن التباغض والتهاجر والتقاطع إلى التحابب والتواصل والتوادد وغير ذلك من أنواع التزكية * (ويعلمكم الكتاب) * أي: القرآن ألفاظه ومعانيه * (والحكمة) * قيل: هي السنة وقيل: الحكمة: معرفة أسرار الشريعة والفقه فيها وتنزيل الأمور منازلها فيكون - على هذا - تعليم السنة داخلا في تعليم الكتاب لأن السنة تبين القرآن وتفسره وتعبر عنه * (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) * لأنهم كانوا قبل بعثته في ضلال مبين لا علم ولا عمل فكل علم أو عمل نالته هذه الأمة فعلى يده صلى الله عليه وسلم وبسببه كان فهذه النعم هي أصول النعم على الإطلاق وهي أكبر نعم ينعم بها على عباده فوظيفتهم شكر الله عليها والقيام بها فلهذا قال تعالى: * (فاذكروني أذكركم) * فأمر تعالى بذكره ووعده عليه أفضل جزاء وهو ذكره لمن ذكره كما قال تعالى على لسان رسوله من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم * (وذكر الله تعالى أفضله ما تواطأ عليه القلب واللسان وهو الذكر الذي يثمر معرفة الله ومحبته وكثرة ثوابه والذكر هو رأس الشكر فلهذا أمر به خصوصا ثم من بعده أمر بالشكر عموما فقال: * (واشكروا لي) * أي: على ما أنعمت عليكم بهذه النعم ودفعت عنكم صنوف النقم والشكر يكون بالقلب إقرارا بالنعم واعترافا وباللسان ذكرا وثناء وبالجوارح طاعة لله وانقيادا لأمره واجتنابا لنهيه فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة وزيادة في النعم المفقودة قال تعالى: * (لئن شكرتم لأزيدنكم) * وفي الإتيان بالأمر بالشكر بعد النعم الدينية من العلم وتزكية الأخلاق والتوفيق للأعمال بيان أنها أكبر النعم بل هي النعم الحقيقية التي تدوم إذا زال غيرها وأنه ينبغي لمن وفقوا لعلم أو عمل أن يشكروا الله على ذلك ليزيدهم من فضله وليندفع عنهم الإعجاب فيشتغلوا بالشكر ولما كان الشكر ضده الكفر نهى عن ضده فقال: * (ولا تكفرون) * المراد بالكفر هاهنا ما يقابل الشكر فهو كفر النعم وجحدها وعدم القيام بها ويحتمل أن يكون المعنى عاما فيكون الكفر أنواعا كثيرة أعظمه الكفر بالله ثم أنواع المعاصي على اختلاف أنواعها وأجناسها من الشرك فما دونه (153) * (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع
(٧٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 ... » »»