تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٥
ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) * يخبر تعالى رسوله أنه لا يرضى منه اليهود ولا النصارى إلا باتباعه دينهم لأنهم دعاة إلى الدين الذي هم عليه ويزعمون أنه الهدى فقل لهم: * (إن هدى الله) * (الذي أرسلت به) * (هو الهدى) * وأما ما أنتم عليه فهو الهوى بدليل قوله: * (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) * فهذا فيه النهي العظيم عن اتباع أهواء اليهود والنصارى والتشبه بهم فيما يختص به دينهم والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمته داخلة في ذلك لأن الاعتبار بعموم المعنى لا بخصوص المخاطب كما أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ثم قال: * (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون * يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين * واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) * يخبر تعالى أن الذين آتاهم الكتاب ومن عليهم به منة مطلقة أنهم * (يتلونه حق تلاوته) * أي: يتبعونه حق اتباعه والتلاوة: الاتباع فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه وهؤلاء هم السعداء من أهل الكتاب الذين عرفوا نعمة الله وشكروها وآمنوا بكل الرسل ولم يفرقوا بين أحد منهم فهؤلاء هم المؤمنون حقا لا من قال منهم: * (نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه) * ولهذا توعدهم بقوله: * (ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) * وقد تقدم تفسير الآية التي بعدها (124 - 125) * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين * وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) * يخبر تعالى عن عبده وخليله إبراهيم عليه السلام المتفق على إمامته وجلالته الذي كل من طوائف أهل الكتاب تدعيه بل وكذلك المشركون: أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات أي: بأوامر ونواهي كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء والامتحان من الصادق الذي ترتفع درجته ويزيد قدره ويزكو عمله ويخلص ذهبه وكان من أجلهم في هذا المقام الخليل عليه السلام فأتم ما ابتلاه الله به وأكمله ووفاه فشكر الله له ذلك ولم يزل الله شكورا فقال: * (إني جاعلك الناس إماما) * أي: يقتدون بك في الهدى ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية ويحصل لك الثناء الدائم والأجر الجزيل والتعظيم من كل أحد وهذه - لعمر الله - أفضل درجة تنافس فيها المتنافسون وأعلى مقام شمر إليه العاملون وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم من كل صديق متبع لهم داع إلى الله وإلى سبيله فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام وأدرك هذا طلب ذلك لذريته لتعلو درجته ودرجة ذريته وهذا أيضا من إمامته ونصحه لعباد الله ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون فلله عظمة هذه الهمم العالية والمقامات السامية فأجابه الرحيم اللطيف وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام فقال: * (لا ينال عهدي الظالمين) * أي: لا ينال الإمامة في الدين من ظلم نفسه وضرها وحط قدرها لمنافاة الظلم لهذا المقام فإنه مقام آلته الصبر واليقين ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة والأخلاق الجميلة والشمائل السديدة والمحبة التامة والخشية والإنابة فأين الظلم وهذا المقام؟ ودل مفهوم الآية أن غير الظالم سينال الإمامة ولكن مع إتيانه بأسبابها ثم ذكر تعالى نموذجا باقيا دالا على إمامة إبراهيم وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده ركنا من أركان الإسلام حاطا للذنوب والآثام وفيه من آثار الخليل وذريته ما عرف به إمامته وتذكرت به حالته فقال: * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) * أي: مرجعا يثوبون إليه لحصول منافعهم الدينية والدنيوية يترددون إليه ولا يقضون منه وطرا * (وجعله * (آمنا) * يأمن به كل أحد حتى الوحش وحتى الجمادات كالأشجار ولهذا كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم فلا يهيجه فلما جاء الإسلام زاده حرمة وتعظيما وتشريفا وتكريما * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * يحتمل أن يكون المراد بذلك المقام المعروف الذي قد جعل الآن مقابل باب الكعبة وأن المراد بهذا ركعتا الطواف يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم وعليه جمهور المفسرين ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج وهي المشاعر كلها: من الطواف والسعي والوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار والنحر وغير ذلك من أفعال الحج فيكون معنى قوله: * (مصلى) * أي: معبدا أي: اقتدوا به في شعائر الحج ولعل هذا المعنى أولى لدخول المعنى الأول فيه واحتمال اللفظ له * (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) * أي: أوحينا إليهما وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك والكفر والمعاصي ومن الرجس والنجاسات
(٦٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 ... » »»