المصطفين الأخيار * (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) * الذين لهم أعلى الدرجات * (إذ قال له ربه أسلم قال) * امتثالا لربه * (أسلمت لرب العالمين) * إخلاصا وتوحيدا ومحبة وإنابة فكان التوحيد لله نعته ثم ورثه في ذريته ووصاهم به وجعلها كلمة باقية في عقبه وتوارثت فيهم حتى وصلت ليعقوب فوصى بها بنيه فأنتم - يا بني يعقوب - قد وصاكم أبوكم بالخصوص فيجب عليكم كمال الانقياد واتباع خاتم الأنبياء قال: * (يا بني إن الله اصطفى لكم الدين) * أي: اختاره وتخيره لكم رحمة بكم وإحسانا إليكم فقوموا به واتصفوا بشرائعه وانصبغوا بأخلاقه حتى تستمروا على ذلك فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه لأن من عاش على شيء مات عليه ومن مات على شيء بعث عليه ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم ومن بعده يعقوب قال تعالى منكرا عليهم: * (أم كنتم شهداء) * أي: حضورا * (إذ حضر يعقوب الموت) * أي: مقدماته وأسبابه فقال لبنيه على وجه الاختبار ولتقر عينه في حياته بامتثالهم ما وصاهم به: * (ما تعبدون من بعدي) *؟ فأجابوه بما قرت به عينه فقالوا: * (نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا) * فلا نشرك به شيئا ولا نعدل به أحدا * (ونحن له مسلمون) * فجمعوا بين التوحيد والعمل ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب لأنهم لم يوجدوا بعد فإذا لم يحضروا فقد أخبر الله عنه أنه أوصى بنيه بالحنيفية لا باليهودية ثم قال تعالى: * (تلك أمة قد خلت) * أي: مضت * (لها ما كسبت ولكم ما كسبتم) * أي: كل له عمله وكل سيجازى بما فعله لا يؤخذ أحد بذنب أحد ولا ينفع أحدا إلا إيمانه وتقواه فاشتغالكم بهم وادعاؤكم أنكم على ملتهم والرضا بمجرد القول أمر فارغ لا حقيقة له بل الواجب عليكم أن تنظروا حالتكم التي أنتم عليها هل تصلح للنجاة أم لا؟
(135) * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) * أي: دعا كل من اليهود والنصارى المسلمين إلى الدخول في دينهم زاعمين أنهم هم المهتدون وغيرهم ضال قل له مجيبا جوابا شافيا: * (بل) * نتبع * (ملة إبراهيم حنيفا) * أي: مقبلا على الله معرضا عما سواه قائما بالتوحيد تاركا للشرك والتنديد فهذا الذي في اتباعه الهداية وفي الإعراض عن ملته الكفر والغواية (136) * (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) * هذه الآية الكريمة قد اشتملت على جميع ما يجب الإيمان به واعلم أن الإيمان الذي هو تصديق القلب التام بهذه الأصول وإقراره المتضمن لأعمال القلوب والجوارح وهو بهذا الاعتبار يدخل فيه الإسلام وتدخل فيه الأعمال الصالحة كلها فهي من الإيمان وأثر من آثاره فحيث أطلق الإيمان دخل فيه ما ذكر وكذلك الإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان فإذا قرن بينهما كان الإيمان اسما لما في القلب من الإقرار والتصديق والإسلام اسما للأعمال الظاهرة وكذلك إذا جمع بين الإيمان والأعمال الصالحة فقوله تعالى: * (قولوا) * أي: بألسنتكم متواطئة عليها قلوبكم وهذا هو القول التام المترتب عليه الثواب والجزاء فكما أن النطق باللسان بدون اعتقاد القلب نفاق وكفر فالقول الخالي من العمل عمل القلب عديم التأثير قليل الفائدة وإن كان العبد يؤجر عليه إذا كان خيرا ومعه أصل الإيمان لكن فرق بين القول المجرد والمقترن به عمل القلب وفي قوله: * (قولوا) * إشارة إلى الإعلان بالعقيدة والصدع بها والدعوة لها إذ هي أصل الدين وأساسه وفي قوله: * (آمنا) * ونحوه مما فيه صدور الفعل منسوبا إلى جميع الأمة إشارة إلى أنه يجب على الأمة الاعتصام بحبل الله جميعا والحث على الائتلاف حتى يكون داعيهم واحدا وعملهم متحدا وفي ضمنه النهي عن الافتراق وفيه أن المؤمنين كالجسد الواحد وفي قوله: * (قولوا آمنا بالله) * الخ دلالة على جواز إضافة الإنسان إلى نفسه الإيمان على وجه التقييد بل على وجوب ذلك بخلاف قوله: أنا مؤمن ونحوه فإنه لا يقال إلا مقرونا بالاستثناء بالمشيئة لما فيه من تزكيه النفس والشهادة على نفسه بالإيمان فقوله: * (آمنا بالله) * أي: بأنه موجود واحد أحد متصف بكل صفة كمال منزه عن كل نقص وعيب مستحق لإفراده بالعبادة كلها وعدم الإشراك به في شيء منها بوجه من الوجوه