فأما إذا تيقن أن الصواب والحق مع المعترض عليه وأن المعترض معاند عارف ببطلان قوله فإنه لا محل للمبالاة بل ينتظر بالمعترض العقوبة الدنيوية والأخروية فلهذا قال تعالى: * (وما الله بغافل عما يعملون) * بل يحفظ عليهم أعمالهم ويجازيهم عليها وفيها وعيد للمعترضين وتسلية للمؤمنين (145) * (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين) * كان النبي صلى الله عليه وسلم من كمال حرصه على هداية الخلق يبذل لهم غاية ما يقدر عليه من النصيحة ويتلطف بهدايتهم ويحزن إذا لم ينقادوا لأمر الله فكان من الكفار من تمرد عن أمر الله واستكبر على رسل الله وترك الهدى عمدا وعدوانا فمنهم: اليهود والنصارى أهل الكتاب الأول الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم عن يقين لا عن جهل فلهذا أخبره الله تعالى أنك لو * (أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية) * أي: بكل برهان ودليل يوضح قولك ويبين ما تدعو إليه * (ما تبعوا قبلتك) * أي: ما تبعوك لأن اتباع القبلة دليل على اتباعه ولأن السبب هو شأن القبلة وإنما كان الأمر كذلك لأنهم معاندون عرفوا الحق وتركوه فالآيات إنما تفيد وينتفع بها من يتطلب الحق وهو مشتبه عليه فتوضح له الآيات البينات وأما من جزم بعدم اتباع الحق فلا حيلة فيه وأيضا فإن اختلافهم فيما بينهم حاصل وبعضهم غير تابع قبلة بعض فليس بغريب منهم مع ذلك أن لا يتبعوا قبلتك يا محمد وهم الأعداء حقيقة الحسدة وقوله: * (وما أنت بتابع قبلتهم) * أبلغ من قوله: ولا تتبع لأن ذلك يتضمن أنه صلى الله عليه وسلم اتصف بمخالفتهم فلا يمكن وقوع ذلك منه ولم يقل ولو أتوا بكل آية لأنهم لا دليل لهم على قولهم وكذلك إذا تبين الحق بأدلته اليقينية لم يلزم الإتيان بأجوبة الشبه الواردة عليه لأنه لا حد لها ولأنه يعلم بطلانها للعلم بأن كل ما نافى الحق الواضح فهو باطل فيكون حل الشبه من باب التبرع * (ولئن اتبعت أهواءهم) * إنما قال: أهواءهم ولم يقل دينهم لأن ما هم عليه مجرد أهواء نفس حتى هم في قلوبهم يعلمون أنه ليس بدين ومن ترك الدين اتبع الهوى ولا محالة قال تعالى: * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) * * (من بعد ما جاءك من العلم) * بأنك على الحق وهم على الباطل * (إنك إذا) * أي: إن اتبعتهم فهذا احتراز لئلا تنفصل هذه الجملة عما قبلها ولو في الأفهام * (لمن الظالمين) * أي: داخل فيهم ومندرج في جملتهم وأي: ظلم أعظم من ظلم من علم الحق والباطل فآثر الباطل على الحق وهذا وإن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم فإن أمته داخلة في ذلك وأيضا فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم لو فعل ذلك - وحاشاه - صار ظالما مع علو مرتبته وكثرة حسناته فغيره من باب أولى وأحرى (146 - 147) ثم قال تعالى: * (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) * يخبر تعالى أن أهل الكتاب قد تقرر عندهم وعرفوا أن محمدا رسول الله وأن ما جاء به حق وصدق وتيقنوا ذلك كما تيقنوا أبناءهم بحيث لا يشتبهون بغيره فمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وصلت إلى حد لا يشكون فيه ولا يمترون لكن فريقا منهم - وهم أكثرهم - الذين كفروا به كتموا هذه الشهادة مع تيقنها وهم يعلمون * (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) * وفي ضمن ذلك تسلية للرسول والمؤمنين وتحذير له من شرهم وشبههم وفريق منهم لم يكتموا الحق وهم يعلمون فمنهم من آمن [به] ومنهم من كفر [به] جهلا فالعالم عليه إظهار الحق وتبيينه وتزيينه بكل ما يقدر عليه من عبارة وبرهان ومثال وغير ذلك وإبطال الباطل وتمييزه عن الحق وتشيينه وتقبيحه للنفوس بكل طريق مؤد لذلك فهؤلاء الكاتمون عكسوا الأمر فانعكست أحوالهم * (الحق من ربك) * أي: هذا الحق الذي هو أحق أن يسمى حقا من كل شيء لما اشتمل عليه من المطالب العالية والأوامر الحسنة وتزكية النفوس وحثها على تحصيل مصالحها ودفع مفاسدها لصدوره من ربك الذي من جملة تربيته لك أن أنزل عليك هذا القرآن الذي فيه تربية العقول والنفوس وجميع المصالح * (فلا تكونن من الممترين) * أي: فلا يحصل لك أدنى شك وريبة فيه بل تفكر فيه وتأمل حتى تصل بذلك إلى اليقين لأن التفكر فيه لا محالة دافع للشك موصل لليقين (148) * (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت
(٧٢)