تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٢
الدعوة إلا إقامة الحجة عليهم وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول صلى الله عليه وسلم في إيمانهم وأنك لا تأس عليهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان فقال: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) * أي: طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان ولا ينفذ فيها فلا يعون ما ينفعهم ولا يسمعون ما يفيدهم * (وعلى أبصارهم غشاوة) * أي: غشاء وغطاء وأكنه تمنعها عن النظر الذي ينفعهم وهذه طرق العلم والخير قد سدت عليهم فلا مطمع فيهم ولا خير يرجى عندهم وإنما منعوا ذلك وسدت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعدما تبين لهم الحق كما قال تعالى: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) * وهذا عقاب عاجل ثم ذكر العقاب الآجل فقال: * (ولهم عذاب عظيم) * وهو عذاب النار وسخط الجبار المستمر الدائم ثم قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر فقال: (8 - 10) * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) * واعلم أن النفاق هو: إظهار الخير وإبطان الشر ويدخل في هذا التعريف النفاق الاعتقادي والنفاق العملي فالنفاق العملي كالذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وفي رواية: وإذا خاصم فجر وأما النفاق الاعتقادي المخرج عن دائرة الإسلام فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم [من مكة] إلى المدينة وبعد أن هاجر فلما كانت وقعة بدر وأظهر الله المؤمنين وأعزهم ذل من في المدينة ممن لم يسلم فأظهر بعضهم الإسلام خوفا ومخادعة ولتحقن دماؤهم وتسلم أموالهم فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم منهم وفي الحقيقة ليسوا منهم فمن لطف الله بالمؤمنين أن جلا أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها لئلا يغتر بهم المؤمنون ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم [قال تعالى]: * (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم) * فوصفهم الله بأصل النفاق فقال: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) * فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فأكذبهم الله بقوله: * (وما هم بمؤمنين) * لأن الإيمان الحقيقي ما تواطأ عليه القلب واللسان وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين والمخادعة: أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع فهؤلاء المنافقون سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك فعاد خداعهم على أنفسهم فإن هذا من العجائب؛ لأن المخادع إما أن ينتج خداعه ويحصل ما يريد أو يسلم لا له ولا عليه وهؤلاء عاد خداعهم عليهم وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها؛ لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم [شيئا] وعباده المؤمنون لا يضرهم كيدهم شيئا فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم وصار كيدهم في نحورهم وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك وقوله: * (في قلوبهم مرض) * والمراد بالمرض هنا: مرض الشك والشبهات والنفاق لأن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة ومرض الشهوات المردية فالكفر والنفاق والشكوك والبدع كلها من مرض الشبهات والزنا ومحبة [الفواحش والمعاصي وفعلها من مرض الشهوات كما قال تعالى: * (فيطمع الذي في قلبه مرض) وهي شهوة الزنا والمعافى من عوفي من هذين المرضين فحصل له اليقين والإيمان والصبر عن كل معصية فرفل في أثواب العافية وفي قوله عن المنافقين: * (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) * بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين وأنه بسبب ذنوبهم السابقة يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) * وقال تعالى: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) * وقال تعالى: * (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * فعقوبة المعصية المعصية بعدها كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها قال تعالى: * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) *
(٤٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 ... » »»