ثبوت علمه، وهو هذه المخلوقات، وما اشتملت عليه، من النظام التام، والخلق الباهر. فإن في ذلك، دلالة على سعة علم الخالق، وكمال حكمته، كما قال تعالى: * (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) * وكما قال تعالى: * (وهو الخلاق العليم) * ذلكم الذي، خلق ما خلق، وقدر ما قدر. * (ذلكم الله ربكم) * أي: المألوه المعبود، الذي يستحق نهاية الذل له، ونهاية الحب. الرب، الذي ربى جميع الخلق بالنعم، وصرف عنهم صنوف النقم. * (لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه) * أي: إذا استقر وثبت، أنه الله الذي لا إله إلا هو، فاصرفوا له جميع أنواع العبادة، وأخلصوها لله، واقصدوا بها وجهه. فإن هذا هو المقصود من الخلق، الذين خلقوا لأجله * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) *. * (وهو على كل شيء وكيل) * أي: جميع الأشياء، تحت وكالة الله وتدبيره، خلقا، وتدبيرا، وتصريفا. ومن المعلوم، أن الأمر المتصرف فيه يكون استقامته، وتمامه، وكمال انتظامه، بحسب حال الوكيل عليه. ووكالته تعالى على الأشياء، ليست من جنس وكالة الخلق، فإن وكالتهم، وكالة نيابة، والوكيل فيها، تابع لموكله. وأما الباري، تبارك وتعالى، فوكالته من نفسه لنفسه، متضمنة لكمال العلم، وحسن التدبير والإحسان فيه، والعدل. فلا يمكن أحدا، أن يستدرك على الله، ولا يرى في خلقه خللا، ولا فطورا، ولا في تدبيره، نقصا وعيبا. ومن وكالته: أنه تعالى، توكل ببيان دينه، وحفظه عن المزيلات والمغيرات، وأنه تولى حفظ المؤمنين وعصمتهم عما يزيل إيمانهم ودينهم. * (لا تدركه الأبصار) * لعظمته، وجلاله وكماله. أي:
لا تحيط به الأبصار، وإن كانت تراه في الآخرة، وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم. فنفي الإدراك، لا ينفي الرؤية، بل يثبتها بالمفهوم. فإنه إذا نفى الإدراك، الذي هو أخص أوصاف الرؤية، دل على أن الرؤية ثابتة. فإنه لو أراد نفي الرؤية، لقال: (لا تراه الأبصار) ونحو ذلك. فعلم أنه ليس في الآية، حجة لمذهب المعطلة، الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة. بل فيها ما يدل على نقيض قولهم. * (وهو يدرك الأبصار) * أي: هو الذي أحاط علمه، بالظواهر والبواطن، وسمعه، بجميع الأصوات الظاهرة والخفية، وبصره بجميع المبصرات، صغارها، وكبارها، ولهذا قال: * (وهو اللطيف الخبير) * الذي لطف علمه وخبرته، ودق، حتى أدرك السرائر والخفايا، والخبايا، والبواطن. ومن لطفه، أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه، ويوصلها إليه بالطرق، التي لا يشعر بها العبد، ولا يسعى فيها. ويوصله إلى السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي، من حيث لا يحتسب. حتى إنه يقدر عليه الأمور، التي يكرهها العبد، ويتألم منها، ويدعو الله أن يزيلها، لعلمه أن دينه أصلح، وأن كماله متوقف عليها. فسبحان اللطيف لما يشاء، الرحيم بالمؤمنين. * (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ) *. لما بين تعالى من الآيات البينات، والأدلة الواضحات، الدالة على الحق في جميع المطالب والمقاصد، نبه العباد عليها، وأخبر أن هدايتهم وضدها لأنفسهم، فقال: * (قد جاءكم بصائر من ربكم) * أي: آيات، تبين الحق، وتجعله للقلب، بمنزلة الشمس للأبصار، لما اشتملت عليه، من فصاحة اللفظ، وبيانه، ووضوحه، ومطابقته للمعاني الجليلة، والحقائق الجميلة، لأنها صادرة من الرب، الذي ربى خلقه، بصنوف نعمه الظاهرة والباطنة، التي من أفضلها وأجلها، تبيين الآيات، وتوضيح المشكلات. * (فمن أبصر) * بتلك الآيات، مواقع العبرة، وعمل بمقتضاها * (فلنفسه) * فإن الله هو الغني الحميد. * (ومن عمي) * بأن بصر، فلم يتبصر، وزجر، فلم ينزجر، وبين له الحق، فما انقاد له ولا تواضع، فإنما مضرة عماه عليه. * (وما أنا) * أيها الرسول * (عليكم بحفيظ) * أحفظ أعمالكم وأرقبها على الدوام، إنما علي البلاغ المبين، وقد أديته، وبلغت ما أنزل الله إلي، فهذه وظيفتي، وما عدا ذلك، فلست موظفا فيه. * (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون * اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إل ه إلا هو وأعرض عن المشركين * ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا ومآ أنت عليهم بوكيل) * قوله تعالى: * (وكذلك نصرف الآيات) * الكاف في موضع نصب صفة للمصدر المحذوف، أي: نصرف الآيات تصريفا، مثل ما تلونا عليك. والتصريف معناه: التنويع. والمراد: أن الله تعالى، ينوع الآيات الدالة على المعاني الرائعة، الكاشفة عن الحقائق الفائقة، لا تصريفا أدنى منه، بل تصريفا بلغت في الروعة مبلغا ارتقى عن إدراك المخلوقين. قوله تعالى: * (وليقولوا درست) * جوابه محذوف، تقديره (ونحن نصرفها) أو نفعل ما نفعل من التصريف المذكور (معنى درست: تعلمت). وقرأت كتب أهل الكتاب أي: قدمت هذه الآية ومضت. كما قالوا: أساطير الأولين، تلقاها ممن مضوا من أهل الكتاب من الأمم السابقة. * (وليقولوا درست) * علة لفعل قد حذف، تعويلا على دلالة السياق عليه. أي، وليقولوا: درست نفعل ما نفعل، من التصريف المذكور. واللام للعاقبة والصيرورة، والواو اعتراضية. أي: لتصير عاقبة أمرهم إلى أن يقولوا درست وهو كقوله تعالى: * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * وهم لم يلتقطوه للعداوة وإنما التقطوه، ليصير لهم قرة عين، ولكن صارت عاقبة أمرهم إلى العداوة. وكذلك الآيات، صرفت للتبيين، ولم تصرف ليقولوا: درست. ولكن حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين، فشبه به. وقوله تعالى: * (ولنبينه) * أي: القرآن، وإن لم يجر له ذكر، لكونه معلوما، أو الآيات، لأنها في معنى القرآن. * (لقوم يعلمون) * الحق من الباطل. ومجمل معنى الآية: ومثل هذا التنويع البديع في عرض الدلائل الكونية، نعرض آياتنا في القرآن منوعة مفصلة، لنقيم الحجة بها على الجاحدين، فلا يجدوا الاختلاق والكذب، فيتهموك بأنك تعلمت من الناس، لا من الله، ولنبين ما أنزل إليك من الحقائق، من غير تأثر بهوى، لقوم يدركون الحق، ويذعنون له. اتبع أيها النبي ما جاءك به الوحي من الله، مالك أمرك، ومدبر شؤونك، إنه وحده الإله المستحق للطاعة والخضوع، فالتزم طاعته، ولا تبال بعناد المشركين، ولا تحتفل بهم، وبأقاويلهم الباطلة. قوله تعالى: * (ولو شاء الله) * أي: إيمانهم فالمفعول به محذوف * (ما أشركوا) * بين أنهم لا يشركون على خلاف مشيئة الله ولو علم منهم اختيار الإيمان لهداهم إليه ولكن علم منهم اختيار الشرك فأشركوا بمشيئته. قوله تعالى: * (وما جعلناك عليهم حفيظا) * أي: رقيبا مهيمنا من قبلنا مراعيا لأعمالهم مأخوذا بإجرامهم وكذلك قوله: * (وما أنت عليهم بوكيل) * من جهتهم ولا بمسلط تقوم بتدبير أمورهم وترعى مصالحهم. والمعنى الإجمالي للآية: ولو أراد الله أن يعبدوه وحده، لقهرهم على ذلك، بقوته وقدرته، لكنه تركهم لاختيارهم. وما جعلناك رقيبا، تحصي عليهم أعمالهم، وما أنت بمكلف، بأن تقوم عنهم، بتدبير شؤونهم، وإصلاح أمرهم. * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) * ينهى الله المؤمنين، عن أمر كان جائزا، بل مشروعا في الأصل، وهو سب آلهة المشركين، التي اتخذت أوثانا وآلهة