تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢١٤
به، فإنها ونظيرها، وما هو أقوى منها، دالة ومقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة، لم يبسطها في هذا الموضع، بل أشار إليها، وأحال على مواضعها، وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللائق ببسطها. وقوله: * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) *. يحتمل أن الضمير هنا في قوله: * (قبل موته) * يعود إلى أهل الكتاب. فيكون على هذا كل كتابي يحضره الموت، ويعاين الأمر حقيقة، فإنه يؤمن بعيسى عليه السلام، ولكنه إيمان لا ينفع، لأنه إيمان اضطرار. فيكون مضمون هذا التهديد لهم والوعيد، أن لا يستمروا على هذه الحال، التي سيندمون عليها قبل مماتهم فكيف يكون حالهم يوم حشرهم وقيامهم؟ ويحتمل أن الضمير في قوله: * (قبل موته) * راجع إلى عيسى عليه السلام. فيكون المعنى: وما من أحد من أهل الكتاب، إلا ليؤمنن بالمسيح عليه السلام قبل موت المسيح، وذلك يكون عند اقتراب الساعة، وظهور علاماتها الكبار. فإنها تكاثرت الأحاديث في نزوله عليه السلام في آخر هذه الأمة. يقتل الدجال، ويضع الجزية، ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين. ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا، يشهد عليهم بأعمالهم، وهل هي موافقة لشرع الله أم لا؟ وحينئذ لا يشهد إلا ببطلان كل ما هم عليه، مما هو مخالف لشريعة القرآن ولما دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، علمنا بذلك، لعلمنا بكمال عدالة المسيح عليه السلام، وصدقه، وأنه لا يشهد إلا بالحق. إلا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، هو الحق، وما عداه، فهو ضلال وباطل. ثم أخبر تعالى أنه حرم على أهل الكتاب، كثيرا من الطيبات، التي كانت حلالا عليهم. وهذا تحريم عقوبة، بسبب ظلمهم واعتدائهم، وصدهم الناس عن سبيل الله، ومنعهم إياهم من الهدى، وبأخذهم الربا، وقد نهوا عنه. فمنعوا المحتاجين، ممن يبايعونه عن العدل. فعاقبهم الله من جنس فعلهم، فمنعهم من كثير من الطيبات، التي كانوا بصدد حلها، لكونها طيبة. وأما التحريم الذي على هذه الأمة، فإنه تحريم، تنزيها لهم عن الخبائث التي تضرهم، في دينهم ودنياهم. * (ل كن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أول ئك سنؤتيهم أجرا عظيما) * لما ذكر معايب أهل الكتاب، ذكر الممدوحين منهم فقال: * (لكن الراسخون في العلم) * أي: الذين ثبت العلم في قلوبهم، ورسخ الإيقان في أفئدتهم، فأثمر لهم الإيمان التام العام * (بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * وأثمر لهم الأعمال الصالحة، من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، الذين هما أفضل الأعمال. وقد اشتملتا على الإخلاص للمعبود، والإحسان إلى العبيد. وآمنوا باليوم الآخر، فخافوا الوعيد، ورجوا الوعد. * (أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما) * لأنهم جمعوا بين العلم والإيمان، والعمل الصالح، والإيمان بالكتب، والرسل السابقة واللاحقة. * (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) * يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله، من الشرع العظيم، والأخبار الصادقة، ما أوحى إلى هؤلاء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وفي هذا عدة فوائد: منها: أن محمدا صلى الله عليه وسلم، ليس ببدع من الرسل، بل أرسل الله قبله من المرسلين، العدد الكثير، والجم الغفير، فاستغراب رسالته لا وجه له إلا الجهل والعناد. ومنها: أنه أوحى إليه، كما أوحى إليهم، في الأصول، والعدل الذي اتقوا عليه، وأن بعضهم يصدق بعضا، ويوافق بعضهم بعضا. ومنها: أنه من جنس هؤلاء الرسل، فليعتبره المعتبر، بإخوانه المرسلين. فدعوته، دعوتهم؛ وأخلاقهم متفقة؛ ومصدرهم واحد؛ وغايتهم واحدة. فلم يقرنه بالمجهولين؛ ولا بالكذابين، ولا بالملوك الظالمين. ومنها: أن في ذكر هؤلاء الرسل وتعدادهم، من التنويه بهم، والثناء الصادق عليهم، وشرح أحوالهم، مما يزداد به المؤمن، إيمانا بهم، ومحبة لهم، واقتداء بهديهم، واستنانا بسنتهم، ومعرفة بحقوقهم، ويكون ذلك مصداقا لقوله: * (سلام على نوح في العالمين) * * (سلام على إبراهيم) * * (سلام على موسى وهارون) * * (سلام على إلياسين. إنا كذلك نجزي المحسنين) *. فكل محسن، له من الثناء الحسن بين الأنام، بحسب إحسانه. والرسل خصوصا هؤلاء المسمون في المرتبة العليا من الإحسان. ولما ذكر اشتراكهم بوحيه، ذكر تخصيص بعضهم. فذكر أنه: آتى داود الزبور، وهو الكتاب المعروف، المزبور
(٢١٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 209 210 211 212 213 214 215 216 217 218 219 ... » »»