الذي خص الله به داود عليه السلام، لفضله وشرفه. وأنه كلم موسى تكليما، أي: مشافهة منه إليه، لا بواسطة، حتى اشتهر بهذا عند العالمين، فيقال: (موسى كليم الرحمن). وذكر أن الرسل، منهم من قصه الله على رسوله، ومنهم من لم يقصصه عليه. وهذا يدل على كثرتهم، وأن الله أرسلهم مبشرين لمن أطاع الله واتبعهم، بالسعادة الدنيوية والأخروية، ومنذرين من عصى الله، وخالفهم بشقاوة الدارين، * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * فيقولوا: * (ما جاءنا من بشير ولا نذير. قل قد جاءكم بشير ونذير) *. فلم يبق للخلق على الله حجة لإرساله الرسل تترى، يبينون لهم أمر دينهم، ومراضي ربهم ومساخطه، وطرق الجنة وطرق النار. فمن كفر منهم بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وهذا من كمال عزته تعالى، وحكمته، أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب. وذلك أيضا من فضله وإحسانه، حيث كان الناس مضطرين إلى الأنبياء، أعظم ضرورة تقدر، فأزال هذا الاضطرار، فله الحمد والشكر. ونسأله، كما ابتدأ عليه نعمته بإرسالهم، أن يتمها بالتوفيق، لسلوك طريقهم. إنه جواد كريم. * (ل كن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا) * لما ذكر أن الله أوحى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما أوحى إلى إخوانه من المرسلين، أخبر هنا، بشهادته تعالى عن رسالته وصحة ما جاء به. و * (أنزله بعلمه) * يحتمل أن يكون المراد، أنزله مشتملا على علمه، أي: فيه من العلوم الإلهية، والأحكام الشرعية، والأخبار الغيبية، ما هو من علم الله تعالى، الذي علم به عباده. ويحتمل أن يكون المراد: أنزله، صادرا عن علمه. ويكون في ذلك إشارة وتنبيه، على وجه شهادته. وأن المعنى: إذا كان تعالى، أنزل هذا القرآن، المشتمل على الأوامر والنواهي، وهو يعلم ذلك، ويعلم حالة الذي أنزله عليه، وأنه دعا الناس إليه، فمن أجابه وصدقه، كان وليه، ومن كذبه وعاداه، كان عدوه، واستباح ماله ودمه، والله تعالى يمكنه، ويوالي نصره، ويجيب دعواته، ويخذل أعداءه وينصر أولياءه. فهل توجد شهادة أعظم من هذه الشهادة وأكبر؟ ولا يمكن القدح في هذه الشهادة، إلا بعد القدح بعلم الله، وقدرته، وحكمته، وإخباره تعالى، بشهادة الملائكة على ما أنزل على رسوله، لكمال إيمانهم، ولجلالة هذا المشهود عليه. فإن الأمور العظيمة، لا يستشهد عليها، إلا الخواص، كما قال تعالى في الشهادة على التوحيد: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) * * (وكفى بالله شهيدا) *. * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا) * لما أخبر عن رسالة الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم، وأخبر برسالة خاتمهم محمد، وشهد بها، وشهدت ملائكته لزم من ذلك، ثبوت الأمر المقرر، والمشهود به، فوجب تصديقهم، والإيمان بهم واتباعهم. ثم توعد من كفر بهم فقال: * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) * أي: جمعوا بين الكفر بأنفسهم، وصدهم الناس عن سبيل الله. وهؤلاء أئمة الكفر، ودعاة الضلال * (قد ضلوا ضلالا بعيدا) *. وأي ضلال، أعظم من ضلال من ضل بنفسه، وأضل غيره، فباء بالإثمين، ورجع بالخسارتين، وفاتته الهدايتان، ولهذا قال: * (إن الذين كفروا وظلموا) * وهذا الظلم هو زيادة على كفرهم، وإلا فالكفر عند إطلاق الظلم يدخل فيه. والمراد بالظلم هنا، أعمال الكفر والاستغراق فيه. فهؤلاء بعيدون من المغفرة، والهداية للصراط المستقيم. ولهذا قال: * (لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم) *. وإنما تعذرت المغفرة لهم والهداية، لأنهم استمروا في طغيانهم، وازدادوا في كفرهم، فطبع على قلوبهم، وانسدت عليهم طرق الهداية، بما كسبوا. * (وما ربك بظلام للعبيد) *. * (وكان ذلك على الله يسيرا) * أي: لا يبالي الله بهم، ولا يعبأ، لأنهم لا يصلحون للخير، ولا يليق بهم، إلا الحالة التي اختاروها لأنفسهم. * (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما) * يأمر تعالى جميع الناس، أن يؤمنوا بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وذكر السبب الموجب للإيمان به، والفائدة في الإيمان والمضرة، في عدم الإيمان به. فالسبب الموجب، هو: إخباره
(٢١٥)