مخلص، كما يدل عليه، عموم التعليل. وقوله: * (ونصله جهنم) * أي: نعذبه فيها عذابا عظيما. * (وساءت مصيرا) * أي: مرجعا له ومآلا. وهذا الوعيد، المترتب على الشقاق، ومخالفة المؤمنين، مراتب، لا يحصيها إلا الله، بحسب حالة الذنب، صغرا وكبرا. فمنه ما يخلد في النار، ويوجب جميع الخذلان. ومنه ما هو دون ذلك، فلعل الآية الثانية، كالتفصيل لهذا المطلق. وهو: أن الشرك، لا يغفره الله تعالى، لتضمنه القدح في رب العالمين، ووحدانيته، وتسوية المخلوق، الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، بمن هو مالك النفع والضر، الذي ما من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه، والغنى التام بجميع وجوه الاعتبارات. فمن أعظم الظلم، وأبعد الضلال، عدم إخلاص العبادة لمن هذا شأنه وعظمته، وصرف شيء منها للمخلوق، الذي ليس له من صفات الكمال شيء، ولا له من صفات الغنى شيء، بل ليس له إلا العدم. عدم الوجود، وعدم الكمال، وعدم الغنى من جميع الوجوه. وأما ما دون الشرك من الذنوب والمعاصي، فهو تحت المشيئة. إن شاء الله غفره برحمته وحكمته. وإن شاء عذب عليه، وعاقب بعدله وحكمته. وقد استدل بهذه الآية الكريمة، على أن إجماع هذه الأمة، حجة، وأنها معصومة من الخطأ. ووجه ذلك: أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين، بالخذلان والنار. وسبيل المؤمنين مفرد مضاف، يشمل سائر ما المؤمنون عليه، من العقائد والأعمال. فإذا اتفقوا على إيجاب شيء، أو استحبابه، أو تحريمه، أو كراهته، أو إباحته فهذا سبيلهم. فمن خالفهم في شيء من ذلك، بعد انعقاد إجماعهم عليه، فقد اتبع غير سبيلهم. ويدل على ذلك قوله تعالى: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) *. ووجه الدلالة منها، أن الله تعالى، أخبر أن المؤمنين من هذه الأمة، لا يأمرون إلا بالمعروف. فإذا اتفقوا على إيجاب شيء، أو استحبابه، فهو مما أمروا به. فيتعين بنص الآية أن يكون معروفا، ولا شيء بعد المعروف، غير المنكر. وكذلك إذا اتفقوا على النهي عن شيء، فهو مما نهوا عنه، فلا يكون إلا منكرا. ومثل ذلك، قوله: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) *. فأخبر تعالى، أن هذه الأمة، جعلها الله وسطا أي: عدلا خيارا، ليكونوا شهداء على الناس، أي: في كل شيء. فإذا شهدوا على حكم، بأن الله أمر به، أو نهى عنه، أو أباحه، فإن شهادتهم معصومة، لكونهم عالمين بما شهدوا به عادلين في شهادتهم. فلو كان الأمر بخلاف ذلك، لم يكونوا عادلين في شهادتهم، ولا عالمين بها. ومثل ذلك قوله تعالى: * (فإن تنازعتم في شيء، فردوه إلى الله والرسول) *. يفهم منها، أن ما لم يتنازعوا فيه، بل اتفقوا عليه، أنهم غير مأمورين برده إلى الكتاب والسنة. وذلك لا يكون إلا موافقا للكتاب والسنة، فلا يكون مخالفا. * (إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا * لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا * ولأضلنهم ولأمنينهم ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا * يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا * أول ئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا) * فهذه الأدلة ونحوها، تفيد القطع، أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة، ولهذا بين الله قبح ضلال المشركين بقوله: * (إن يدعون من دونه) * إلى * (محيصا) *. أي: ما يدعو هؤلاء المشركون من دون الله إلا إناثا، أي: أوثانا وأصناما، مسميات بأسماء الإناث، ك (العزى) و (مناة) ونحوهما. ومن المعلوم، أن الاسم دال على المسمى. فإذا كانت أسماؤها، أسماء مؤنثة ناقصة، دل ذلك، على نقص المسميات بتلك الأسماء، وفقدها لصفات الكمال. كما أخبر الله تعالى، في غير موضع من كتابه، أنها لا تخلق، ولا ترزق، ولا تدفع عن عابديها، بل ولا عن نفسها؛ نفعا ولا ضرا، ولا تنصر أنفسها ممن يريدها بسوء، وليس لها أسماع، ولا أبصار، ولا أفئدة. فكيف يعبد، من هذا وصفه، ويترك الإخلاص لمن له الأسماء الحسنى، والصفات العليا والحمد والكمال، والمجد، والجلال، والعز، والجمال، والرحمة، والبر، والإحسان، والانفراد بالخلق والتدبير، والحكمة العظيمة في الأمر والتقدير؟ هل هذا إلا من أقبح القبيح، الدال على نقص صاحبه، وبلوغه من الخسة والدناءة، أدنى ما يتصوره متصور، أو يصفه واصف؟
(٢٠٣)