تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢١٣
زعموا الإيمان به أن كل دليل دلهم على الإيمان بمن آمنوا به، موجود هو أو مثله، أو ما هو فوقه النبي الذي كفروا به. وكل شبهة يزعمون أنهم يقدحون بها في النبي الذي كفروا به، موجود مثلها، أو أعظم منها، فيمن آمنوا به. فلم يبق بعد ذلك، إلا التشهي والهوى، ومجرد الدعوى، التي يمكن كل أحد أن يقابلها بمثلها. ولما ذكر أن هؤلاء هم الكافرون حقا، ذكر عقابا شاملا لهم، ولكل كافر فقال: * (وأعدتنا للكافرين عذابا مهينا) * كما تكبروا عن الإيمان بالله، أهانهم بالعذاب الأليم المخزي. * (والذين آمنوا بالله ورسله) * وهذا يتضمن الإيمان، بكل ما أخبر الله به عن نفسه، وبكل ما جاءت به الرسل من الأخبار والأحكام. * (ولم يفرقوا بين أحد منهم) * بل آمنوا بهم كلهم. فهذا هو الإيمان الحقيقي، واليقين المبني على البرهان. * (أولئك سوف يؤتيهم أجورهم) * أي: جزاء إيمانهم، وما ترتب عليه، من عمل صالح، وقول حسن، وخلق جميل، كل على حسب حاله. ولعل هذا هو السر في إضافة الأجور إليهم. * (وكان الله غفورا رحيما) * يغفر السيئات ويتقبل الحسنات. * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جآءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا * ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا * فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا * وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما * وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ول كن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما * وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا * فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا * وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما) * هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب، للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، على وجه العناد والاقتراح، وجعلهم هذا السؤال. يتوقف عليه تصديقهم، أو تكذيبهم. وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة، كما نزلت التوراة والإنجيل. وهذا غاية الظلم منهم، فإن الرسول، بشر عبد، مدبر ليس في يده من الأمر شيء، بل الأمر كله لله. وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده، كما قال تعالى عن الرسول، لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين عليه صلى الله عليه وسلم، * (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) *. وكذلك جعلهم الفارق، بين الحق والباطل، مجرد إنزال الكتاب جملة، أو مفرقا، مجرد دعوى، لا دليل عليها، ولا مناسبة، بل ولا شبهة. فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء، أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب، نزل مفرقا، فلا تؤمنوا به، ولا تصدقوه؟ بل نزول القرآن مفرقا بحسب الأحوال، مما يدل على عظمته، واعتناء الله بمن أنزل عليه كما قال تعالى: * (وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا. ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) *. فلما ذكر اعتراضهم الفاسد، أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم. بل سبق لهم من المقدمات القبيحة، ما هو أعظم مما سلكوا مع الرسول، الذي يزعمون أنهم آمنوا به، من سؤالهم له، رؤية الله عيانا، واتخاذهم العجل إلها يعبدونه، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم، ما لم يره غيرهم. ومن امتناعهم من قبول أحكام كتابهم، وهو التوراة، حتى رفع الطور من فوق رؤوسهم، وهددوا أنهم إن لم يؤمنوا، أسقط عليهم، فقبلوا ذلك على وجه الإغماض، والإيمان الشبيه بالإيمان الضروري. ومن امتناعهم من دخول أبواب القرية، التي أمروا بدخولها سجدا مستغفرين، فخالفوا القول والفعل. ومن اعتداء من اعتدى منهم في السبت، فعاقبهم الله تلك العقوبة الشنيعة. وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم، فنبذوه وراء ظهورهم، وكفروا بآيات الله، وقتلوا رسله بغير حق. ومن قولهم: إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه. والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه، بل شبه لهم غيره، فقتلوا غيره وصلبوه. وادعائهم أن قلوبهم غلف، لا تفقه ما تقول لهم، ولا تفهمه. وبصدهم الناس عن سبيل الله، فصدوهم عن الحق، ودعوتهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي. وبأخذهم السحت، والربا، مع نهي الله لهم عنه، والتشديد فيه. فالذين فعلوا هذه الأفاعيل، لا يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا، أن ينزل عليهم كتابا من السماء. وهذه الطريقة، من أحسن الطرق، لمحاجة الخصم المبطل. وهو: أنه إذا صدر منه من الاعتراض الباطل، ما جعله شبهة له ولغيره، في رد الحق، أن يبين من حاله الخبيثة، وأفعاله الشنيعة، ما هو من أقبح ما صدر منه، ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك الوادي الخسيس، وأن له مقدمات يجعل هذا معها. وكذلك كل اعتراض يعترضون به، على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، يمكن أن يقابل بمثله، أو ما هو أقوى منه، في نبوة من يدعون إيمانهم به، ليكتفى بذلك شرهم، وينقمع باطلهم. وكل حجة سلكوها، في تقريرهم لنبوة من آمنوا
(٢١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 208 209 210 211 212 213 214 215 216 217 218 ... » »»