ومحل إرادته، وأن يزيل عن نفسه، كل مانع وعائق يعوقه، عن إرادة القسط، أو العمل به. وأعظم عائق لذلك، اتباع الهوى، ولهذا، نبه تعالى، على إزالة هذا المانع بقوله: * (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) * أي: فلا تتبعوا شهوات أنفسكم المعارضة للحق. فإنكم إن اتبعتموها، عدلتم عن الصواب، ولم توفقوا للعدل. فإن الهوى، إما أن يعمي بصيرة صاحبه، حتى يرى الحق باطلا، والباطل حقا. وإما أن يعرف الحق ويتركه، لأجل هواه. فمن سلم من هوى نفسه، وفق للحق، وهدي إلى الصراط المستقيم. ولما بين أن الواجب، القيام بالقسط، نهى عن ما يضاد ذلك، وهو لي اللسان عن الحق، في الشهادات وغيرها، وتحريف النطق، عن الصواب المقصود من كل وجه، أو من بعض الوجوه. ويدخل في ذلك، تحريف الشهادة، وعدم تكميلها، أو تأويل الشاهد على أمر آخر. فإن هذا، من اللي، لأنه الانحراف عن الحق. * (أو تعرضوا) * أي: تتركوا القسط المنوط بكم، كترك الشاهد لشهادته وترك الحاكم لحكمه، الذي يجب عليه القيام به. * (فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * أي: محيطا بما فعلتم، يعلم أعمالكم، خفيها وجليها. وفي هذا تهديد شديد، للذي يلوي أو يعرض. ومن باب أولى، الذي يحكم بالباطل، أو يشهد بالزور، لأنه أعظم جرما. لأن الأولين، تركا الحق، وقام هو بالباطل. * (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) * اعلم أن الأمر، إما أن يوجه إلى من لم يدخل في الشيء ولم يتصف بشيء منه. فهذا يكون أمرا له، في الدخول فيه. وذلك كأمر من ليس بمؤمن بالإيمان كقوله تعالى: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم) * الآية. وإما أن يوجه إلى من دخل في الشيء، فهذا يكون أمره ليصحح ما وجد منه ويحصل ما لم يوجد. ومنه ما ذكره الله في هذه الآية، من أمر المؤمنين بالإيمان. فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم، من الإخلاص والصدق، وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات. ويقتضي أيضا، الأمر بما لم يوجد من المؤمن، من علوم الإيمان وأعماله. فإنه كما وصل إليه نص، وفهم معناه، واعتقده، فإن ذلك من المأمور به. وكذلك سائر الأعمال الظاهرة، والباطنة، كلها من الإيمان، كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة، وأجمع عليه سلف الأمة. ثم الاستمرار على ذلك، والثبات عليه إلى الممات كما قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) *. وأمر هنا بالإيمان به، وبرسله، وبالقرآن، وبالكتب المتقدمة. فهذا كله من الإيمان الواجب، الذي لا يكون العبد مؤمنا إلا به، إجمالا فيما لم يصل إليه تفصيله، وتفصيلا فيما علم من ذلك بالتفصيل. فمن آمن هذا الإيمان المأمور به، فقد اهتدى وأنجح. * (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) *. وأي ضلال أبعد من ضلال من ترك طريق الهدى المستقيم، وسلك الطريق الموصلة له إلى العذاب الأليم؟ واعلم أن الكفر بشيء من هذه الأمور المذكورة، كالكفر بجميعها، لتلازمها، وامتناع وجود الإيمان ببعضها، دون بعض. * (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) * ثم قال: * (إن الذين آمنوا ثم كفروا) * الآية. أي: من تكرر منه الكفر بعد الإيمان، فاهتدى، ثم ضل وأبصر، ثم عمي وآمن، ثم كفر واستمر على كفره، وازداد منه، فإنه بعيد من التوفيق والهداية، لأقوم الطريق، وبعيد عن المغفرة، لكونه أتى بأعظم مانع يمنعه من حصولها. فإن كفره، يكون عقوبة وطبعا، لا يزول كما قال تعالى: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) *. * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) *. ودلت الآية: أنهم، إن لم يزدادوا كفرا، بل رجعوا إلى الإيمان، وتركوا ما هم عليه من الكفران، فإن الله يغفر لهم، ولو تكررت منهم الردة. وإذ كان هذا الحكم في الكفر، فغيره من المعاصي التي دونه من باب أولى أن العبد لو تكررت منه، ثم عاد إلى التوبة، عاد الله له بالمغفرة. * (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) * البشارة، تستعمل في الخير، وتستعمل في الشر بقيد، كما في هذه الآية. يقول تعالى: * (بشر المنافقين) * أي: الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، بأقبح بشارة وأسوئها، وهو العذاب الأليم. وذلك بسبب محبتهم الكفار، وموالاتهم، ونصرتهم، وتركهم لموالاة المؤمنين. فأي شيء حملهم على ذلك؟ * (أيبتغون عندهم العزة) * وهذا هو الواقع من أحوال
(٢٠٩)