إلا الله، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وتأمل كيف خص الاعتصام والإخلاص، بالذكر مع دخولهما في قوله: * (وأصلحوا) * لأن الاعتصام والإخلاص، من جملة الإصلاح، لشدة الحاجة إليهما، خصوصا في هذا المقام الحرج، الذي تمكن فيه النفاق من القلوب. فلا يزيله إلا شدة الاعتصام بالله، ودوام اللجأ والافتقار إليه، في دفعه، وكون الإخلاص منافيا كل المنافاة للنفاق. فذكرهما لفضلهما، وتوقف الأعمال الظاهرة والباطنة عليهما، ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما. وتأمل كيف لما ذكر أن هؤلاء مع المؤمنين لم يقل: وسوف يؤتيهم أجرا عظيما، مع أن السيئات فيهم. بل قال: * (وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما) *. لأن هذه القاعدة الشريفة لم يزل الله يبدىء فيها ويعيد، إذا كان السياق في بعض الجزئيات، وأراد أن يرتب عليه ثوابا أو عقابا وكان ذلك مشتركا بينه وبين الجنس الداخل فيه. رتب الثواب، في مقابلة الحكم العام، الذي تندرج تحته، تلك القضية وغيرها. ولئلا يتوهم اختصاص الحكم، بالأمر الجزئي، فهذا من أسرار القرآن البديعة. فالتائب من المنافقين، مع المؤمنين، وله ثوابهم. ثم أخبر تعالى، عن كمال غناه، وسعة حلمه، ورحمته وإحسانه فقال: * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) * والحال أن الله شاكر عليم. يعطي المتحملين لأجله الأثقال، الدائبين في الأعمال؛ جزيل الثواب وواسع الإحسان. ومن ترك شيئا لله، أعطاه الله خيرا منه. ومع هذا، يعلم ظاهركم وباطنكم، وأعمالكم، وما تصدر عنه من إخلاص وصدق، وضد ذلك. وهو يريد التوبة والإنابة منكم والرجوع إليه. فإذا أنبتم إليه، فأي شيء يفعل بعذابكم؟ فإنه لا يتشفى بعذابكم، ولا ينتفع بعقابكم. بل العاصي لا يضر إلا نفسه، كما أن عمل المطيع لنفسه. والشكر هو: خضوع القلب، واعترافه بنعمة الله، وثناء اللسان على المشكور. وعمل الجوارح بطاعته، وأن لا يستعين بنعمه على معاصيه. * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا) * يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، أي: يبغض ذلك ويمقته، ويعاقب عليه. ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة، التي تسوء وتحزن، كالشتم، والقذف، والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله، من المنهي عنه، الذي يبغضه الله. ويدل مفهومها، أنه يحب الحسن من القول، كالذكر، والكلام الطيب اللين. وقوله: * (إلا من ظلم) * أي: فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه، ويشتكي منه، ويجهر بالسوء لمن جهر له به، من غير أن يكذب عليه، ولا يزيد على مظلمته، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه. ومع ذلك، فعفوه، وعدم مقابلته، أولى كما قال تعالى: * (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) *. * (وكان الله سميعا عليما) * ولما كانت الآية، قد اشتملت على الكلام السيء، والحسن، والمباح، أخبر تعالى، أنه سميع، فيسمع أقوالكم، فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم. وفيه أيضا ترغيب على القول الحسن * (عليم) * بنياتكم ومصدر أقوالكم. ثم قال تعالى: * (إن تبدوا خيرا أو تخفوه) * وهذا يشمل كل خير، قولي، وفعلي، ظاهر، وباطن، من واجب، ومستحب. * (أو تعفوا عن سوء) * أي: عمن أساء إليكم في أبدانكم، وأموالكم، وأعراضكم، فتسمحوا عنه، فإن الجزاء من جنس العمل. فمن عفا لله، عفا الله عنه، ومن أحسن، أحسن الله إليه، فلهذا قال: * (فإن الله كان عفوا قديرا) * أي: يعفو عن زلات عباده، وذنوبهم العظيمة. فيسدل عليهم ستره، ثم يعاملهم بعفوه التام، الصادر عن قدرته. وفي هذه الآية، إرشاد إلى التدبر في معاني أسماء الله وصفاته، وأن الخلق والأمر، صادر عنها، وهي مقتضية له، ولهذا يعلل الأحكام، بالأسماء الحسنى، كما في هذه الآية. لما ذكر عمل الخير والعفو عن المسئ، رتب على ذلك، بأن أحالنا على معرفة أسمائه، وأن ذلك يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص قال: * (إن الذين يكفرون) * إلى * (وكان الله غفورا رحيما) *. * (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أول ئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا * والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أول ئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما) * هنا قسمان، قد وضحا لكل أحد: مؤمن بالله، وبرسله كلهم، وكتبه، وكافر بذلك كله. وبقي قسم ثالث: وهو: الذي يزعم أنه يؤمن ببعض الرسل، دون بعض، وأن هذا سبيل ينجيه من عذاب الله، إن هذا إلا مجرد أماني. فإن هؤلاء، يريدون التفريق بين الله وبين رسله. فإن من تولى الله حقيقة، تولى جميع رسله، لأن ذلك من تمام. ومن عادى أحدا من رسله، فقد عادى الله، وعادى جميع رسله كما قال تعالى: * (من كان عدوا لله) * الآيات. وكذلك من كفر برسول، فقد كفر بجميع الرسل، بل بالرسول، الذي يزعم أنه به مؤمن، ولهذا قال: * (أولئك هم الكافرون حقا) *. وذلك لئلا يتوهم أن مرتبتهم متوسطة، بين الإيمان والكفر. ووجه كونهم كافرين حتى بمن
(٢١٢)