تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢٠٢
فكان أعلم الخلق على الإطلاق، وأجمعهم لصفات الكمال، وأكملهم فيها. ولهذا قال: * (وكان فضل الله عليك عظيما) * ففضله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أعظم من فضله على كل الخلق. وأجناس الفضل التي قد فضله الله به، لا يمكن استقصاؤها ولا يتيسر إحصاؤها. * (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون. وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه، كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة، كالكلام المحرم بجميع أنواعه. ثم استثنى تعالى فقال: * (إلا من أمر بصدقة) * من مال، أو علم، أو أي نفع كان. بل لعله، يدخل فيه العبادات القاصرة، كالتسبيح، والتحميد، ونحوه. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة) الحديث. * (أو معروف) * وهو الإحسان والطاعة، وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه. وإذا أطلق الأمر بالمعروف، من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر، دخل فيه النهي عن المنكر. وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف. وأيضا لا يتم فعل الخير، إلا بترك الشر. وأما عند الاقتران، فيفسر المعروف، بفعل المأمور، والمنكر، بترك المنهي. * (أو إصلاح بين الناس) * والإصلاح، لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين. والنزاع، والخصام، والتغاضب، يوجب من الشر والفرقة، ما لا يمكن حصره. فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس، في الدماء والأموال والأعراض. بل وفي الأديان، كما قال تعالى: * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) *. وقال تعالى: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما. فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) * الآية. وقال تعالى: * (والصلح خير) *. والساعي في الإصلاح بين الناس، أفضل من القانت بالصلاة، والصيام، والصدقة. والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله. كما أن الساعي في الإفساد، لا يصلح الله عمله، ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى: * (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) *. فهذه الأشياء، حيثما فعلت، فهي خير، كما دل على ذلك الاستثناء. ولكن كمال الأجر وتمامه، بحسب النية والإخلاص، ولهذا قال: * (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، فسوف نؤتيه أجرا عظيما) *. فلهذا ينبغي للعبد، أن يقصد وجه الله تعالى، ويخلص العمل لله، في كل وقت، وفي كل جزء من أجزاء الخير، ليحصل له بذلك، الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص، فيكون من المخلصين، وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا، لأن النية حصلت، واقترن بها، ما يمكن من العمل. * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) * أي: ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعانده فيما جاء به * (من بعد ما تبين له الهدى) * بالدلائل القرآنية، والبراهين النبوية. * (ويتبع غير سبيل المؤمنين) * وسبيلهم هو: طريقهم في عقائدهم وأعمالهم. * (نوله ما تولى) * أي: نتركه وما اختاره لنفسه، ونخذله، فلا نوفقه للخير، لكونه رأى الحق وعلمه وتركه. فجزاؤه من الله عدلا، أن يبقيه في ضلاله حائرا، ويزداد ضلالا إلى ضلاله. كما قال تعالى: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) *، وقال تعالى: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) *. ويدل مفهومها، على أن من لم يشاقق الرسول، ويتبع سبيل المؤمنين، بأن كان قصده وجه الله، واتباع رسوله، ولزوم جماعة المسلمين، ثم صدر منه، من الذنوب أو الهم بها، ما هو من مقتضيات النفوس، وغلبات الطباع، فإن الله لا يوليه نفسه وشيطانه، بل يتداركه بلطفه، ويمن عليه، بحفظه، ويعصمه من السوء كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام: * (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) * أي: بسبب إخلاصه، صرفنا عنه السوء، وكذلك كل
(٢٠٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 197 198 199 200 201 202 203 204 205 206 207 ... » »»