الشامل الصادر من خزائن رحمته، التي لا ينقصها الإنفاق، ولا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار. لو اجتمع أهل السماوات، وأهل الأرض، أولهم وآخرهم، فسأل كل واحد منهم، ما بلغت أمانيه، ما نقص من ملكه شيئا. ذلك بأنه جواد واجد ماجد، عطاؤه كلام، وعذابه كلام. * (إنما أمره لشيء إذا أراد شيئا، أن يقول له كن فيكون) *. ومن تمام غناه، أنه كامل الأوصاف. إذ لو كان فيه نقص بوجه من الوجوه، لكان فيه نوع افتقار إلى ذلك الكمال. بل، له كل صفة كمال، ومن تلك الصفة كمالها. ومن تمام غناه، أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولا شريكا في ملكه، ولا ظهيرا، ولا معاونا له على شيء، من تدابير ملكه. ومن كمال غناه، افتقار العالم العلوي والسفلي، في جميع أحوالهم وشؤونهم، إليه، وسؤالهم إياه، جميع حوائجهم الدقيقة والجليلة. فقام تعالى بتلك المطالب والأسئلة، وأغناهم وأقناهم، ومن عليهم بلطفه، وهداهم. وأما الحميد، فهو من أسماء الله تعالى الجليلة، الدال على أنه هو المستحق لكل حمد، ومحبة، وثناء وإكرام. وذلك لما اتصف به من صفات الحمد، التي هي صفة الجمال والجلال، ولما أنعم به على خلقه من النعم الجزال، فهو المحمود على كل حال. وما أحسن اقتران هذين الاسمين الكريمين * (الغني الحميد) * فإنه غني محمود، فله كمال من غناه، وكمال من حمده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر. ثم كرر إحاطة ملكه، لما في السماوات والأرض، وأنه على كل شيء وكيل. أي: عالم قائم بتدبير الأشياء، على وجه الحكمة، فإن ذلك، من تمام الوكالة. فإن الوكالة تستلزم العلم، بما هو وكيل عليه، والقوة، والقدرة على تنفيذه وتدبيره وكون ذلك التدبير على وجه الحكمة والمصلحة. فما نقص من ذلك، فهو لنقص بالوكيل. والله تعالى منزه عن كل نقص. أي: هو الغني الحميد الذي له القدرة الكاملة والمشيئة النافذة فيكم. * (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا) * * (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين) * غيركم، هم أطوع لله منكم وخير منكم. وفي هذا تهديد للناس على إقامتهم على كفرهم، وإعراضهم عن ربهم، فإن الله لا يعبأ بهم شيئا، إن لم يطيعوه، ولكنه يمهل، ويملي، ولا يهمل. ثم أخبر أن من كانت همته وإرادته دنية، غير متجاوزة ثواب الدنيا، وليس له إرادة في الآخرة، فإنه قد قصر سعيه ونظره، ومع ذلك فلا يحصل له من ثواب الدنيا، سوى ما كتب الله لها منها. فإنه تعالى، هو المالك لكل شيء، الذي عنده ثواب الدنيا والآخرة، فليطلبا منه، وليستعن به عليهما. فإنه لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تدرك الأمور الدينية والدنيوية إلا بالاستعانة به، والافتقار إليه على الدوام. وله الحكمة تعالى، في توفيق من يوفقه، وخذلان من يخذله، وفي إعطائه ومنعه. ولهذا قال: * (وكان الله سميعا بصيرا) *. * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * ثم قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين) * الآيتين. يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا * (قوامين بالقسط شهداء لله) *. والقوام، صيغة مبالغة، أي: كونوا في كل أحوالكم، قائمين بالقسط، الذي هو العدل في حقوق الله، وحقوق عباده. فالقسط في حقوق الله، أن لا يستعان بنعمه على معصيته، بل تصرف في طاعته. والقسط في حقوق الآدميين، أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك، كما تطلب حقوقك. فتؤدي النفقات الواجبة، والديون، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، من الأخلاق والمكافأة، وغير ذلك. ومن أعظم أنواع القسط، القسط في المقالات والقائلين. فلا يحكم لأحد القولين، أو أحد المتنازعين، لانتسابه أو ميله لأحدهما. بل يجعل وجهته، العدل بينهما. ومن القسط أداء الشهادة، التي عندك على أي وجه كان، حتى على الأحباب، بل على النفس، ولهذا قال: * (شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) * أي: فلا تراعوا الغني لغناه، ولا الفقير بزعمكم رحمة له. بل اشهدوا بالحق، على من كان. والقيام بالقسط، من أعظم الأمور، وأدلها على دين القائم به، وورعه ومقامه في الإسلام. فيتعين على من نصح نفسه، وأراد نجاتها أن يهتم له غاية الاهتمام، وأن يجعله نصب عينيه،
(٢٠٨)