قيلا) * ولما بين مآل الأشقياء، أولياء الشيطان، ذكر مآل السعداء أوليائه فقال: * (والذين آمنوا) * الآية. أي: * (آمنوا) * بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، خيره وشره، على الوجه الذي أمروا به، علما، وتصديقا، وإقرارا. * (وعملوا الصالحات) * الناشئة عن الإيمان. وهذا يشمل سائر المأمورات، من واجب، ومستحب، الذي على القلب، والذي على اللسان، والذي على بقية الجوارح. كل له، من الثواب المرتب على ذلك، بحسب حاله ومقامه، وتكميله للإيمان والعمل الصالح. ويقويه، ما رتب على ذلك، بحسب ما أخل به من الإيمان والعمل. وذلك بحسب ما علم من حكمة الله ورحمته. وكذلك وعده الصادق، الذي يعرف من تتبع كتاب الله وسنة رسوله. ولهذا ذكر الثواب المرتب على ذلك بقوله: * (سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار) * فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من أنواع المآكل، والمشارب اللذيذة، والمناظر العجيبة، والأزواج الحسنة، والقصور، والغرف المزخرفة، والأشجار المتدلية، والفواكه المستغربة والأصوات الشجية، والنعم السابغة، وتزاور الإخوان، وتذكرهم ما كان منهم، في رياض الجنات. وأعلى من ذلك وأجل رضوان الله عليهم، وتمتع الأرواح بقربه، والعيون برؤيته، والأسماع بخطابه، الذي ينسيهم كل نعيم وسرور. ولولا الثبات من الله لهم، لطاروا، وماتوا من الفرح والحبور. فلله ما أحلى ذلك النعيم، وما أعلى ما أتاهم الرب الكريم، وما حصل لهم، من كل خير وبهجة، لا يصفه الواصفون. وتمام ذلك وكماله، الخلود الدائم، في تلك المنازل العاليات، ولهذا قال: * (خالدين فيها أبدا. وعد الله حقا، ومن أصدق من الله قيلا) *. فصدق الله العظيم، الذي بلغ قوله وحديثه في الصدق، أعلى ما يكون. ولهذا لما كان كلامه صدقا، وخبره صدقا كان ما يدل عليه، مطابقة، وتضمنا، وملازمة، كل ذلك مراد من كلامه. وكذلك كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لكونه لا يخبر إلا بأمره ولا ينطق إلا عن وحيه. * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأول ئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) * أي: * (ليس) * الأمر والنجاة والتزكية * (بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) *. والأماني: أحاديث النفس المجردة عن العمل، المقترن بها، دعوى مجردة، لو عورضت بمثلها، لكانت من جنسها. وهذا عام في كل أمر. فكيف بأمر الإيمان، والسعادة الأبدية؟ فإن أماني أهل الكتاب، قد أخبر الله بها، أنهم قالوا: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم) * وغيرهم ممن ليس ينتسب لكتاب، ولا رسول، من باب أولى وأحرى. وكذلك أدخل الله في ذلك من ينتسب إلى الإسلام، لكمال العدل والإنصاف. فإن مجرد الانتساب إلى أي دين كان، لا يفيد شيئا، إن لم يأت الإنسان ببرهان، على صحة دعواه. فالأعمال تصدق الدعوى، أو تكذبها، ولهذا قال تعالى: * (من يعمل سوءا يجز به) * وهذا شامل لجميع العاملين. لأن السوء شامل، لأي ذنب كان، من صغائر الذنوب، وكبائرها. وشامل أيضا، لكل جزاء، قليل، أو كثير، دنيوي، أو أخروي. والناس في هذا المقام درجات، لا يعلمها إلا الله، فمستقل ومستكثر. فمن كان عمله كله سوءا، وذلك لا يكون إلا كافرا. فإذا مات من دون توبة، جوزي بالخلود في العذاب الأليم. ومن كان عمله صالحا، وهو مستقيم في غالب أحواله، وإنما يصدر منه أحيانا بعض الذنوب الصغار، فما يصيبه من الهم، والغم، والأذى، وبعض الآلام، في بدنه، أو قلبه، أو حبيبه، أو ماله، ونحو ذلك فإنها مكفرات للذنوب، لطفا من الله بعباده. وبين هذين الحالين مراتب كثيرة. وهذا الجزاء، على عمل السوء العام، مخصوص في غير التائبين. فإن التائب من الذنب، كمن لا ذنب له، كما دلت على ذلك النصوص. وقوله: * (ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) * لإزالة بعض ما لعله يتوهم، أن من استحق المجازاة على عمله، قد يكون له ولي، أو ناصر، أو شافع، يدفع عنه ما استحقه. فأخبر تعالى، بانتفاء ذلك، فليس له ولي، يحصل له المطلوب، ولا نصير يدفع عنه المرهوب، إلا ربه ومليكه. * (ومن يعمل من الصالحات) * دخل في ذلك، سائر الأعمال القلبية والبدنية. ودخل أيضا، كل عامل، من إنس، أو جن، صغير، أو كبير، ذكر، أو أنثى. ولهذا قال: * (من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) * وهذا شرط لجميع الأعمال لا تكون صالحة، ولا تقبل، ولا يترتب عليها الثواب، ولا يندفع بها العقاب، إلا بالإيمان. فالأعمال بدون الإيمان، كأغصان شجرة، قطع أصلها، وكبناء، بني على موج الماء. فالإيمان، هو الأصل والأساس، والقاعدة، التي يبنى عليها كل شيء. وهذا القيد، ينبغي التفطن له، في كل عمل مطلق، فإنه مقيد به. * (فأولئك) * أي: الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح. * (يدخلون
(٢٠٥)