ومع هذا فعبادتهم، إنما صورتها فقط، لهذه الأوثان الناقصة. وبالحقيقة، ما عبدوا غير الشيطان، الذي هو عدوهم، الذي يريد إهلاكهم، ويسعى في ذلك بكل ما يقدر عليه، الذي هو في غاية البعد من الله، لعنه الله وأبعده عن رحمته. فكما أبعده الله من رحمته، يسعى في إبعاد العباد عن رحمة الله. * (إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) *. ولهذا أخبر الله عن سعيه، في إغواء العباد، وتزيين الشر لهم والفساد، وأنه قال لربه مقسما: * (لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) * أي: مقدورا. علم اللعين، أنه لا يقدر على إغواء جميع عباد الله، وأن عباد الله المخلصين، ليس له عليهم سلطان. وإنما سلطانه، على من تولاه، وآثر طاعته على طاعة مولاه. وأقسم في موضع آخر ليغوينهم فقال: * (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) *. فهذا الذي ظنه الخبيث وجزم به، أخبر الله تعالى بوقوعه بقوله: * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) *. وهذا النصيب المفروض، الذي أقسم ليتخذنه منهم، ذكر ما يريده بهم، وما يقصده لهم بقوله: * (ولأضلنهم) * أي: عن الصراط المستقيم، ضلالا في العلم، وضلالا في العمل. * (ولأمنينهم) * أي: مع الإضلال، لأمنينهم أن ينالوا، ما ناله المهتدون. وهذا هو الغرور بعينه. فلم يقتصر على مجرد إضلالهم حتى زين لهم، ما هم فيه من الضلال. وهذا زيادة شر إلى شرهم، حيث عملوا أعمال أهل النار، الموجبة للعقوبة، وحسبوا أنها موجبة للجنة. واعتبر ذلك باليهود والنصارى ونحوهم، فإنهم كما حكى الله عنهم. * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم) *، * (وكذلك زينا لكل أمة عملهم) *، * (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) * الآيات. وقال تعالى عن المنافقين إنهم يقولون يوم القيامة للمؤمنين: * (ألم نكم معكم؟ قالوا: بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور) *. وقوله: * (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام) * أي: بتقطيع آذانها، وذلك كالبحيرة، والسائبة والوصيلة، والحام، فنبه ببعض ذلك على جميعه. وهذا نوع من الإضلال، يقتضي تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله. ويلتحق بذلك، من الاعتقادات الفاسدة، والأحكام الجائرة، ما هو من أكبر الإضلال. * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * وهذا يتناول الخلقة الظاهرة، بالوشم، والوشر، والنمص، والتفليج للحسن، ونحو ذلك، مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن. وذلك يتضمن التسخط من خلقته، والقدح في حكمته، واعتقاد أن ما يصنعونه بأيديهم، أحسن من خلقة الرحمن، وعدم الرضا بتقديره وتدبيره. ويتناول أيضا تغيير الخلقة الباطنة. فإن الله تعالى خلق عباده حنفاء مفطورين على قبول الحق، وإيثاره. فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل، وزينت لهم الشر والشرك والكفر، والفسوق، والعصيان. فإن كل مولود يولد على الفطرة، ولكن أبواه، يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، ونحو ذلك، مما يغيرون به، ما فطر الله عليه العباد، من توحيده، وحبه ومعرفته. فافترستهم الشياطين في هذا الموضع، افتراس السبع، والذئاب للغنم المنفردة. ولولا لطف الله وكرمه بعباده المخلصين، لجرى عليهم، ما جرى على هؤلاء المفتونين، فخسروا الدنيا والآخرة، ورجعوا بالخيبة والصفقة الخاسرة. وهذا الذي جرى عليهم، من توليهم عن ربهم وفاطرهم، وتوليهم لعدوهم المريد لهم الشر، من كل وجه. ولهذا قال: * (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) *. وأي خسار أبين وأعظم، ممن خسر دينه ودنياه، وأوبقته معاصيه وخطاياه؟ فحصل له الشقاء الأبدي، وفاته النعيم السرمدي. كما أن من تولى مولاه، وآثر رضاه، ربح كل الربح، وأفلح كل الفلاح، وفاز بسعادة الدارين، وأصبح قرير العين. اللهم، فلا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت. اللهم تولنا فيمن توليت، وعافنا فيمن عافيت. ثم قال: * (يعدهم ويمنيهم) * أي: يعد الشيطان من يسعى في إضلالهم. والوعد يشمل حتى الوعيد كما قال تعالى: * (الشيطان يعدكم الفقر) *. فإنه يعدهم إذا أنفقوا في سبيل الله افتقروا. ويخوفهم إذا جاهدوا، بالقتل وغيره كما قال تعالى: * (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) * الآية. ويخوفهم عند إيثار مرضاة الله، بكل ما يمكن، وما لا يمكن، مما يدخله في عقولهم، حتى يكسلوا عن فعل الخير. وكذلك يمنيهم الأماني الباطلة، التي هي عند التحقيق كالسراب الذي لا حقيقة له. ولهذا قال: * (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أولئك مأواهم جهنم) * أي: من انقاد للشيطان، وأعرض عن ربه، وصار من أتباع إبليس وحزبه، مستقرهم النار. * (ولا يجدون عنها محيصا) * أي: مخلصا ولا ملجأ، بل هم خالدون فيها أبد الآباد. * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله
(٢٠٤)