تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢٠٠
وغيرها. وأنه يشترط في الحكم، العلم والعدل لقوله: * (بما أراك الله) * ولم يقل: بما رأيت. ورتب أيضا، الحكم بين الناس على معرفة الكتاب. ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط، نهاه عن الجور والظلم، الذي هو ضد العدل فقال: * (ولا تكن للخائنين خصيما) * أي: لا تخاصم عن من عرفت خيانته، من مدع ما ليس له، أو منكر حقا عليه، سواء علم ذلك، أو ظنه. ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل، والنيابة عن المبطل، في الخصومات الدينية، والحقوق الدنيوية. ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم. * (واستغفر الله) * مما صدر منك، إن صدر. * (إن الله كان غفورا رحيما) * أي: يغفر الذنب العظيم، لمن استغفره، وتاب إليه وأناب، ويوفقه للعمل الصالح بعد ذلك، الموجب لثوابه، وزوال عقابه. * (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) *. (الاختيان) و (الخيانة) بمعنى الجناية، والظلم، والإثم، وهذا يشمل النهي عن المجادلة، عن من أذنب وتوجه عليه عقوبة، من حد أو تعزير ، فإنه لا يجادل عنه، بدفع ما صدر منه من الخيانة، أو بدفع ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية. * (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) * أي: كثير الخيانة والإثم. وإذا انتفى الحب، ثبت ضده، وهو البغض، وهذا كالتعليل، للنهي المتقدم. ثم ذكر عن هؤلاء الخائنين أنهم * (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) *. وهذا من ضعف الإيمان، ونقصان اليقين، أن تكون مخافة الخلق عندهم، أعظم من مخافة الله فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة، على عدم الفضيحة عند الناس، وهم مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم. وهو معهم بالعلم، في جميع أحوالهم، خصوصا في حال تبييتهم ما لا يرضيه من القول، من تبرئة الجاني، ورمي البريء بالجناية، والسعي في ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم، ليفعل ما بيتوه. فقد جمعوا بين عدة جنايات، ولم يراقبوا رب الأرض والسماوات، المطلع على سرائرهم وضمائرهم، ولهذا توعدهم تعالى بقوله: * (وكان الله بما يعملون محيطا) * أي: قد أحاط بذلك علما. ومع هذا، لم يعاجلهم بالعقوبة بل استأنى بهم، وعرض عليهم التوبة وحذرهم من الإصرار على ذنبهم، الموجب للعقوبة البليغة. * (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا) * أي: هبكم جادلتم عنهم في هذه الحياة الدنيا، ودفع عنهم جدالكم بعض ما يحذرون من العار والفضيحة، عند الخلق. فماذا يغني عنهم وينفعهم؟ ومن يجادل الله عنهم يوم القيامة حين تتوجه عليهم الحجة، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون؟ * (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين) *. فمن يجادل عنهم، من يعلم السر وأخفى، ومن أقام عليهم من الشهود ما لا يمكن معه الإنكار؟ وفي هذه الآية، الإرشاد إلى المقابلة، بين ما يتوهم من مصالح الدنيا المترتبة على ترك أوامر الله، أو فعل مناهيه. وبين ما يفوت من ثواب الآخرة، أو يحصل من عقوباتها. فيقول من أمرته نفسه بترك أمر الله ها أنت تركت أمره كسلا وتفريطا، فما النفع الذي انتفعت به؟ وماذا فاتك من ثواب الآخرة؟ وماذا ترتب على هذا الترك من الشقاء والحرمان والخيبة والخسران؟ وكذلك إذا دعته نفسه إلى ما تشتهيه من الشهوات المحرمة، قا لها: هبك فعلت ما اشتهيت، فإن لذته تنقضي، ويعقبها من الهموم، والغموم، والحسرات، وفوات الثواب، وحصول العقاب ما بعضه يكفي العاقل في الإحجام عنها. وهذا من أعظم ما ينفع العبد تدبره، وهو خاصة، العقل الحقيقي. بخلاف من يدعي العقل، وليس كذلك. فإنه بجهله وظلمه يؤثر اللذة الحاضرة، والراحة الراهنة، ولو ترتب عليها ما ترتب. والله المستعان. ثم قال تعالى: * (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) * أي: من تجرأ على المعاصي، واقتحم على الإثم، ثم استغفر الله استغفارا تاما، يستلزم الإقرار بالذنب، والندم عليه، والإقلاع، والعزم على أن لا يعود. فهذا قد وعده من لا يخلف الميعاد، بالمغفرة والرحمة. فيغفر له ما صدر منه من الذنب، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة، ويوفقه فيما يستقبله من عمره، ولا يجعل ذنبه حائلا عن توفيقه، لأنه قد غفره، وإذا غفره، غفر ما يترتب عليه. واعلم أن عمل السوء عند الإطلاق، يشمل سائر المعاصي، الصغيرة والكبيرة. وسمي (سوءا) لكونه يسوء عامله بعقوبته، ولكونه في نفسه سيئا، غير حسن. وكذلك ظلم النفس عند الإطلاق، يشمل ظلمها بالشرك، فما دونه. ولكن
(٢٠٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 195 196 197 198 199 200 201 202 203 204 205 ... » »»