تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢٠١
عند اقتران أحدهما بالآخر، قد يفسر كل واحد منهما، بما يناسبه. فيفسر عمل السوء هنا، بالظلم الذي يسوء الناس، وهو ظلمهم، في دمائهم، وأموالهم وأعراضهم. ويفسر ظلم النفس، بالظلم والمعاصي، التي بين الله وبين عبده. وسمي ظلم النفس (ظلما) لأن نفس العبد، ليس ملكا له، يتصرف فيها بما يشاء. وإنما هي، ملك لله تعالى، قد جعلها أمانة عند العبد، وأمره أن يقيمها على طريق العدل، بإلزامها الصراط المستقيم، علما وعملا، فيسعى في تعليمها ما أمر به، ويسعى في العمل بما يجب. فسعيه في غير هذا الطريق، ظلم لنفسه، وخيانة، وعدول بها عن العدل، الذي ضده، الجور والظلم. ثم قال: * (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه) * وهذا يشمل، كل ما يؤثم، من صغير وكبير. فمن كسب سيئة، فإن عقوبتها الدنيوية والأخروية، على نفسه، لا تتعداها إلى غيرها، كما قال تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *. لكن إذا ظهرت السيئات، فلم تنكر، عمت عقوبتها، وشمل إثمها. فلا تخرج أيضا، عن حكم هذه الآية الكريمة، لأن من ترك الإنكار الواجب، فقد كسب سيئة. وفي هذا بيان عدل الله وحكمته، أنه لا يعاقب أحدا بذنب أحد، ولا يعاقب أحدا أكثر من العقوبة الناشئة عن ذنبه، ولهذا قال: * (وكان الله عليما حكيما) * أي: له العلم الكامل، والحكمة التامة. ومن علمه وحكمته، أنه يعلم الذنب، ومن صدر منه، والسبب الداعي لفعله، والعقوبة المترتبة على فعله. ويعلم حالة المذنب، أنه إن صدر منه الذنب، بغلبة دواعي نفسه الأمارة بالسوء، مع إنابته إلى ربه، في كثير من أوقاته، أنه سيغفر له، ويوفقه للتوبة. وإن صدر بتجرؤه على المحارم، استخفافا بنظر ربه، وتهاونا بعقابه، فإن هذا بعيد من المغفرة، بعيد من التوفيق للتوبة. ثم قال: * (ومن يكسب خطيئة) * أي: ذنبا كبيرا * (أو إثما) * ما دون ذلك. * (ثم يرم به) * أي: يتهم بذنبه * (بريئا) * من ذلك الذنب، وإن كان مذنبا * (فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) * أي: فقد حمل فوق ظهره، بهتا للبريء وإثما ظاهرا بينا. وهذا يدل على أن ذلك من كبائر الذنوب وموبقاتها. فإنه قد جمع عدة مفاسد: كسب الخطيئة، والإثم. ثم رمى من لم يفعلها بفعلها. ثم الكذب الشنيع، بتبرئة نفسه، واتهام البريء. ثم ما يترتب على ذلك، من العقوبة الدنيوية، تندفع عمن وجبت عليه، وتقام على من لا يستحقها. ثم ما يترتب على ذلك أيضا، من كلام الناس في البريء، إلى غير ذلك من المفاسد، التي نسأل الله العافية منها، ومن كل شر. ثم ذكر منته على رسوله بحفظه وعصمته ممن أراد أن يضله فقال: * (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك) *. وذلك أن هذه الآيات الكريمات، قد ذكر المفسرون، أن سبب نزولها، أن أهل بيت، سرقوا في المدينة. فلما اطلع على سرقتهم، خافوا الفضيحة، وأخذوا سرقتهم، فرموها ببيت من هو بريء من ذلك. واستعان السارق بقومه، أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلبوا منه أن يبرئ صاحبهم، على رؤوس الناس. وقالوا: إنه لم يسرق، وإنما الذي سرق، من وجدت السرقة ببيته، وهو البريء. فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يبرئ صاحبهم. فأنزل الله هذه الآيات، تذكيرا، وتبيينا لتلك الواقعة، وتحذيرا للرسول صلى الله عليه وسلم، من المخاصمة عن الخائنين، فإن المخاصمة عن المبطل، من الضلال. فإن الضلال نوعان: ضلال في العلم، وهو الجهل بالحق، وضلال في العمل، وهو: العمل بغير ما يجب.
فحفظ الله رسوله، عن هذا النوع من الضلال، كما حفظه عن الضلال في الأعمال. وأخبر أن كيدهم ومكرهم، يعود على أنفسهم، كحالة كل ماكر، فقال: * (وما يضلون إلا أنفسهم) * لكون ذلك المكر، وذلك التحيل، لم يحصل لهم فيه مقصودهم، ولم يحصل لهم إلا الخيبة والحرمان، والإثم والخسران. وهذه نعمة كبيرة، على رسوله صلى الله عليه وسلم، تتضمن النعمة بالعمل، وهو: التوفيق لفعل ما يحب، والعصمة له عن كل محرم. ثم ذكر نعمته عليه بالعلم فقال: * (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) * أي: أنزل عليك هذا القرآن العظيم، والذكر الحكيم، الذي فيه تبيان كل شيء، وعلم الأولين والآخرين. والحكمة: إما السنة، التي قد قال فيها بعض السلف: إن السنة تنزل عليه، كما ينزل القرآن. وإما معرفة أسرار الشريعة الزائدة، على معرفة أحكامها، وتنزيل الأشياء منازلها، وترتيب كل شيء بحسبه. * (وعلمك ما لم تكن تعلم) * وهذا يشمل جميع ما علمه الله تعالى. فإنه صلى الله عليه وسلم، كما وصفه الله قبل النبوة بقوله: * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) *، * (ووجدك ضالا فهدى) *. ثم لم يزل يوحي الله إليه، ويعلمه، ويكمله، حتى ارتقى مقاما من العلم، يتعذر وصوله على الأولين والآخرين.
(٢٠١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 196 197 198 199 200 201 202 203 204 205 206 ... » »»