تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ١٩٠
ذلك. فإن في تدبر كتاب الله مفتاحا للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم. وبه يزداد الإيمان في القلب، وترسخ شجرته. فإنه يعرف بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال؛ وما ينزه عنه من سمات النقص. ويعرف الطريق الموصلة إليه، وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه. ويعرف العدو، الذي هو العدو على الحقيقة؛ والطريق الموصلة إلى العذاب؛ وصفة أهلها؛ وما لهم عند وجود أسباب العقاب. وكلما ازداد العبد تأملا فيه، ازداد علما، وعملا، وبصيرة. ولذلك أمر الله بذلك، وحث عليه، وأخبر أنه هو المقصود بإنزال القرآن، كما قال تعالى: * (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته، وليتذكر أولو الألباب) *. وقال تعالى: * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) *. ومن فوائد التدبير لكتاب الله: أنه بذلك، يصل العبد إلى درجة اليقين، والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه، يصدق بعضه بعضا، ويوافق بعضه بعضا. فترى الحكم والقصة والأخبار، تعاد في القرآن؛ في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضا. فبذلك يعلم كمال القرآن، وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور. فلذلك قال تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * أي: فلما كان من عند الله؛ لم يكن فيه اختلاف أصلا. * (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) * هذا تأديب من الله لعباده، عن فعلهم هذا، غير اللائق. وأنه ينبغي لهم، إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة، ما يتعلق بالأمن، وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم، أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر. بل يردونه إلى الرسول، وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي، والعلم والنصح، والعقل، والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين، وسرورا لهم، وتحرزا من أعدائهم، فعلوا ذلك. وإن رأوا ما فيه مصلحة، أو فيه مصلحة، ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه. ولهذا قال: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة، وعلومهم الرشيدة. وفي هذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور، ينبغي أن يولي من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع، لنشر الأمور، من حين سماعها. والأمر بالتأمل قبل الكلام، والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيقدم عليه الإنسان، أم لا؟ فيحجم عنه؟ ثم قال تعالى: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) * أي: في توفيقكم، وتأديبكم، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون. * (لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) * لأن الإنسان بطبعه، ظالم جاهل، فلا تأمره نفسه إلا بالشر. فإذا لجأ إلى ربه، واعتصم به، واجتهد في ذلك، لطف به ربه، ووفقه لكل خير، وعصمه من الشيطان الرجيم. * (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا) * هذه الحالة، أفضل أحوال العبد، أن يجتهد في نفسه على امتثال أمر الله، من الجهاد وغيره، ويحرض غيره عليه. وقد يعدم في العبد الأمران أو أحدهما، فلهذا قال لرسوله: * (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) * أي: ليس لك قدرة على غير نفسك، فلن تكلف بفعل غيرك. * (وحرض المؤمنين) * على القتال، وهذا يشمل كل أمر يحصل به نشاط المؤمنين، وقوة قلوبهم، من تقويتهم، والإخبار بضعف الأعداء، وفشلهم، وبما أعد للمقاتلين من الثواب، وما على المتخلفين من العقاب. فهذا وأمثاله، كله يدخل في التحريض على القتال. * (عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا) * أي: بقتالكم في سبيل الله، وتحريض بعضكم بعضا. * (والله أشد بأسا) * أي: قوة وعزة * (وأشد تنكيلا) * بالمذنب في نفسه وتنكيلا لغيره، فلو شاء تعالى، لانتصر من الكفار بقوته، ولم يجعل لهم باقية. ولكن من حكمته يبلو بعض عباده ببعض، ليقوم سوق الجهاد، ويحصل الإيمان النافع، إيمان الاختيار، لا إيمان الاضطرار والقهر، الذي لا يفيد شيئا. * (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا) * المراد بالشفاعة هنا:
(١٩٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 185 186 187 188 189 190 191 192 193 194 195 ... » »»