تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ١٥٥
لا غيره لأنه قد علم أنه هو الناصر وحده فالاعتماد عليه توحيد محصل للمقصود والاعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه بل ضار وفي هذه الآية الأمر بالتوكل على الله وحده وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله (61) * (وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) * الغلول هو: الكتمان من الغنيمة [والخيانة في كل ما يتولاه الإنسان] وهو محرم إجماعا بل هو من الكبائر كما تدل عليه هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص فأخبر تعالى أنه ما ينبغي ولا يليق بنبي أن يغل لأن الغلول - كما علمت - من أعظم الذنوب وشر العيوب وقد صان الله تعالى أنبياءه عن كل ما يدنسهم ويقدح فيهم وجعلهم أفضل العالمين أخلاقا وأطهرهم نفوسا وأزكاهم وأطيبهم ونزههم عن كل عيب وجعلهم محل رسالته ومعدن حكمته * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * فبمجرد علم العبد بالواحد منهم يجزم بسلامتهم من كل أمر يقدح فيهم ولا يحتاج إلى دليل على فساد ما قيل فيهم من أعدائهم لأن معرفته بنبوتهم تستلزم دفع ذلك ولذلك أتى بصيغة يمتنع معها وجود الفعل منهم فقال: * (وما كان لنبي أن يغل) * أي: يمتنع ذلك ويستحيل على من اختارهم الله لنبوته ثم ذكر الوعيد على من غل فقال: * (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) * أي: يأت به حامله على ظهره حيوانا كان أو متاعا أو غير ذلك يعذب به يوم القيامة * (ثم توفى كل نفس ما كسبت) * الغال وغيره كل يوفى أجره ووزره على مقدار كسبه * (وهم لا يظلمون) * أي: لا يزاد في سيئاتهم ولا يهضمون شيئا من حسناتهم وتأمل حسن هذا الاحتراز في هذه الآية الكريمة لما ذكر عقوبة الغال وأنه يأتي يوم القيامة بما غله ولما أراد أن يذكر توفيته وجزاءه وكان اقتصاره على الغال يوهم - بالمفهوم - أن غيره من أنواع العاملين قد لا يوفون - أتى بلفظ عام جامع له ولغيره (162 - 163) * (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون) * يخبر تعالى أنه لا يستوي من كان قصده رضوان الله والعمل على ما يرضيه كمن ليس كذلك ممن هو مكب على المعاصي مسخط لربه هذان لا يستويان في حكم الله وحكمة الله وفي فطر عباد الله * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) * ولهذا قال: * (هم درجات عند الله) * أي: كل هؤلاء متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم بحسب تفاوتهم في أعمالهم فالمتبعون لرضوان الله يسعون في نيل الدرجات العاليات والمنازل والغرفات فيعطيهم الله من فضله وجوده على قدر أعمالهم والمتبعون لمساخط الله يسعون في النزول في الدركات إلى أسفل سافلين كل على حسب عمله والله بصير بأعمالهم لا يخفى عليه منها شيء بل قد علمها وأثبتها في اللوح المحفوظ ووكل ملائكته الأمناء الكرام أن يكتبوها ويحفظوها ويضبطوها (164) * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) * هذه المنة التي امتن بها على عباده أكبر النعم بل أصلها وهي الامتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي أنقذهم الله به من الضلالة وعصمهم به من الهلكة فقال: * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) * يعرفون نسبه وحاله ولسانه من قومهم وقبيلتهم ناصحا لهم مشفقا عليهم يتلو عليهم آياته يعلمهم ألفاظها ومعانيها * (ويزكيهم) * من الشرك والمعاصي والرذائل وسائر مساوىء الأخلاق و * (يعلمهم الكتاب) * إما جنس الكتاب الذي هو القرآن فيكون قوله: * (يتلو عليكم آياته) * المراد به الآيات الكونية أو المراد بالكتاب - هنا - الكتابة فيكون قد امتن عليهم بتعليم الكتاب والكتابة التي بها تدرك العلوم وتحفظ * (والحكمة) * هي: السنة التي هي شقيقة القرآن ووضع الأشياء مواضعها ومعرفة أسرار الشريعة فجمع لهم بين تعليم الأحكام وما به تنفيذ الأحكام وما به تدرك فوائدها وثمراتها ففاقوا بهذه الأمور العظيمة جميع المخلوقين وكانوا من العلماء الربانيين * (وإن كانوا من قبل) * بعثة هذا الرسول * (لفي ضلال مبين) * لا يعرفون الطريق الموصل إلى ربهم ولا ما يزكي النفوس ويطهرها بل ما يزين لهم جهلهم فعلوه ولو ناقض
(١٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 150 151 152 153 154 155 156 157 158 159 160 ... » »»