تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٨ - الصفحة ٥٢
فكأنه قيل: تبوأوا دار الهجرة ودار الايمان على أن المراد بالدارين المدنية، والعطف كما في قولك: رأيت الغيث والليث وأنت تريد زيدا، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف، وقيل: إن الايمان مجاز عن المدينة سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة وهو كما ترى، وقيل: الواو للمعية والمراد تبوأوا الدار مع إيمانهم أي تبوأوها مؤمنين، وهو أيضا ليس بشيء، وأحسن الأوجه ما ذكرناه أولا، وذكر بعضهم أن الدار علم بالغلبة على المدينة كالمدينة، وأنه أحد أسماء لها منها طيبة. وطابة. ويثرب. وجابرة إلى غير ذلك.
وأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم حديثا مرفوعا يدل على ذلك * (من قبلهم) * أي من قبل المهاجرين، والجار متعلق بتبوأوا، والكلام بتقدير مضاف أي من قبل هجرتهم فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان بل سبقهم إياهم في التمكن فيه لأنهم لم ينازعوا فهي لما أظهروه.
وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير تبوأوا الدار من قبلهم والإيمان فيفيد سبقهم إياهم في تبوىء الدار فقط وهو خلاف الظاهر على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية وهي غير ظاهرة ههنا؛ وقيل: لا حاجة إلى شيء مما ذكر، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوىء الأنصاري وإيمانهم على تبوىء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو ههنا تبوؤ الدار، وتعقب بمنع الكفاية ولو سلمت لصح أن يقال: بتقدم تبوىء المهاجرين وإيمانهم على تبوىء الأنصار وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين * (يحبون من هاجر إليهم) * في موضع الحال من الموصول، وقيل: استئناف، والكلام قيل: كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم، وقيل: على ظاهره أي يحبون المهاجرين إليهم من حيث مهاجرته إليهم لحبهم الايمان * (ولا يجدون في صدورهم) * أي ولا يعلمون في أنفسهم.
* (حاجة) * أي طلب محتاج إليه * (مما أوتوا) * أي مما أعطى المهاجرون من الفيء وغيره، وحاصله أن نفوسهم لم تتبع ما أعطى المهاجرون ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه، فالوجدان إدراك علمي وكونه في الصدر من باب المجاز، - والحاجة - بمعنى المحتاج إليه، وهو استعمال شائع يقال: خذ منه حاجتك وأعطاه من ماله حاجته، و * (من) * تبعيضية، وجوز كونها بيانية والكلام على حذف مضاف وهو طلب، وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا ذلك ولا مر في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه النفس.
ويجوز أن كيون المعنى - لا يجدون في أنفسهم مايحمل عليه الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطى المهاجرون - على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها، وقيل: على أنها كناية عما ذكر لأنه لا ينفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم، وما تقدم أولى، وقول بعضهم: أي أثر حاجة تقدير معنى لا إعراب، و * (من) * في قوله تعالى: * (مما أوتوا) * تعليلية * (ويؤثرون) * أي يقدمون المهاجرين * (على أنفسهم) * في كل شيء من الطيبات حتى أن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا منهم، ويجوز أن لا يعتبر مفعول - يؤثرون - خصوص المهاجرين، أخرج البخاري. ومسلم. والترمذي. والنسائي. وغيرهم عن
(٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 ... » »»