واختار بعضهم كون المعنى هو الذي خلقكم خلقا بديعا حاويا لجميع مبادي الكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته، وكان الواجب عليكم جميعا أن تكونوا مختارين للايمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليهما من سائر النعم، فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه بل تشعبتم شعبا وتفرقتم فرقا، وهو الذي ذهب إليه الزمشخري، بيد أنه فسر الكافر بالآتي بالكفر والفاعل له. والمؤمن بالآتي بالايمان والفاعل له لأنه الأوفق بمذهبه من أن العبد خالق لأفعاله، وأن الآية لبيان إخلالهم بما يقتضيه التفضل عليهم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من النعم، وأن الآيات بعد في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصي الخالق ولا تشكر نعمته. ثم قال: فما أجهل من يمزج الكفر وإنكار أن يعصي الخالق ولا تشكر نعمته. ثم قال: فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته، والخلق أعظم نعمة من الله تعالى على عباده، والكفر أعظم كفران من العباد لربهم سبحانه، وجعل الطيبي الفاء على هذا للترتيب والفرض على سبيل الاستعارة كاللام في قوله تعالى: * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * (القصص: 8) وهي كالفاء في قوله تعالى: * (وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) * (الحديد: 26) ولم يجعلها للتفصيل كما قيل.
واختار في الآية المعنى السابق مؤيدا له بالأحاديث الصحيحة، وبأن السياق عليه مدعيا أن الآيات كلها واردة لبيان عظمة الله تعالى في ملكه وملكوته واستبداده فيهما، وفي شمول علمه تعالى كلها وفي إنشائه تعالى المكونات ذواتها وأعراضها، ووافقه في اختيار ذلك تلميذه المدقق صاحب الكشف، واعترض قول الزمخشري: فما أجهل الخ بقوله فيه ما مر مرارا كأنه يعني مخالفة النصوص في عدم كون الكفر مخلوقا كغيره على أن خلق الكفر أيضا من النعم العظام فلولا خلقه وتبيين ما فيه من المضار ما ظهر مقدار الأنعام بالايمان وما فيه من المنافع، ثم إن كونه كفرا باعتبار قيامه بالعبد ومنه جاء القبح لا باعتبار كونه خلقه تعالى على ما حقق في موضعه، ثم قال: ومنه يظهر أن تكلفه في قوله تعالى: * (فمنكم) * الخ ليخرجه عن تفصيل المجمل في * (خلقكم) * تحريف لكتاب الله تعالى انتهى.
ويرجح التفصيل عندي في الجملة قوله تعالى: * (كافر. ومؤمن) * دون من يكفر ومن يؤمن، نعم عدم دخول الكفر والايمان في الخلق أوفق بقوله تعالى: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) * (الروم: 30) وقوله صلى الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة " والانصاف أن الآية تحتمل كلا من المعنيين: المعنى الذي ذكر أولا. والمعنى الذي اختاره البعض، والسياق يحتمل أن يحمل على ما يناسب كلا وليس نصا في أحد الأمرين اللذين سمعتهما حتى قيل: إن الآيات واردة لبيان ما يتوقف عليه الوعد والوعيد بعد من القدرة التامة والعلم المحيط بالنشأتين، وقوله تعالى: * (والله بما تعملون بصير) * أي فيجازيكم بما يناسب ذلك لا ينافي خلق الكفر والايمان لأنهما مكسوبان للعبد، وخلق الله تعالى إياهما لا ينافي كونهما مكسوبين للعبد كما بين في الكلام على قوله تعالى: * (والله خلقكم وما تعملون) * لكن أكثر الأحاديث تؤيد المعنى الأول، وكأني بك تختار الثاني لأن كون المقام للتوبيخ على الكفر أظهر وهو أوفق به، وعن عطاء بن أبي رباح * (فمنكم كافر) * أي بالله تعالى مؤمن بالكوكب * (ومنكم مؤمن) * بالله تعالى كافر بالكوكب، وقيل: * (فمنكم كافر) * بالخلق وهم الدهرية * (ومنكم مؤمن) * به، وعن الحسن أن في الكلام حذفا والتقدير ومنكم فاسق، ولا أراه يصح، وكأنه من كذب المعتزلة عليه، والجملة - على ما استطهر بعض الأفاضل - معطوفة على الصلة، ولا يضره عدم العائد لأن