تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٨ - الصفحة ١١٧
النفقات عنهم ولا يفطنون أنهم إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم فهم لا يفقهون ذلك ولا يفطنون له، ومعنى الثاني إيعادهم بإخراج الأعز للأذل، وعندهم أن الأعز من له القوة والغلبة على ما كانوا عليه في الجاهلية فهم لا يعلمون أن هذه القدرة التي يفضل بها الإنسان غيره إنما هي من الله تعالى فهي له سبحانه ولمن يخصه بها من عباده، ولا يعلمون أن الذل لمن يقدرون فيه العزة وأن الله تعالى معز أوليائه بطاعتهم له ومذل أعدائه بمخالفتهم أمره عز وجل، فقد اختص كل آية بما اقتضاه معناها فتدبر، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة الذم مع الإشارة إلى علة الحكم في الموضعين.
* (ياأيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أول‍ادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأول‍ائك هم الخ‍اسرون) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أول‍ادكم عن ذكر الله) * أي لا يشغلكم الاهتمام بتدبير أمورها والاعتناء بمصالحها والتمتع بها عن الاشتغال بذكر الله عز وجل من الصلاة وسائر العبادات المذكرة للمعبود الحق جل شأنه فذكر الله تعالى مجاز عن مطلق العبادة كما يقتضيه كلام الحسن وجماعة، والعلاقة السببية لأن العبادة سبب لذكره سبحانه وهو المقصود في الحقيقة منها.
وفي رواية عن الحسن أن المراد به جميع الفرائض، وقال الضحاك. وعطاء: الذكر هنا الصلاة المكتوبة، وقال الكلبي: الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل: القرآن، والعموم أولى، ويفهم كلام الكشاف أن المراد بالأموال والأولاد الدنيا، وعبر بهما عنها لكونهما أرغب الأشياء منها قال الله تعالى: * (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) * فإذا أريد بذكر الله العموم يؤول المعنى إلى لا تشغلنكم الدنيا عن الدين، والمراد بنهي الأموال وما بعدها نهى المخاطبين وإنما وجه إليها للمبالغة لأنها لقوة تسببها للهو وشدة مدخليتها فيه جعلت كأنها لاهية، وقد نهيت عن اللهو فالأصل لا تلهوا بأموالكم الخ، فالتجوز في الإسناد، وقيل: إنه تجوز بالسبب عن المسبب كقوله تعالى: * (فلا يكن في صدرك حرج) * (الأعراف: 2) أي لا تكونوا بحيث تلهيكم أموالكم الخ.
* (ومن يفعل ذلك) * أي اللهو بها وهو الشغل، وهذا أبلغ مما لو قيل: ومن تلهه تلك * (فأول‍ائك هم الخ‍اسرون) * حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني، وفي التعريف بالإشارة والحصر للخسران فيهم، وفي تكرير الإسناد وتوسيط ضمير الفصل ما لا يخفى من المبالغة، وكأنه لما نهى المنافقون عن الانفاق على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأريد الحث على الانفاق جعل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا) * الخ تمهيدا وتوطئة للأمر بالانفاق لكن على وجه العموم في قوله سبحانه:
* (وأنفقوا من ما رزقن‍اكم من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول رب لولاأخرتنىإلى أجل قريب فأصدق وأكن من الص‍الحين) *.
* (وأنفقوا من ما رزقن‍اكم) * أي بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال ادخارا للآخرة * (من قبل أن يأتي أحدكم الموت) * أي أماراته ومقدماته فالكلام على تقدير مضاف ولذا فرع على ذلك قوله تعالى: * (رب لولا أخرتني) * أي أمهلتني * (إلى أجل قريب) * أي أمد قصير * (فأصدق) * أي فأتصدق، وبذلك قرأ أبي. وعبد الله. وابن جبير، ونصب الفعل في جواب التمني والجزم في قوله سبحانه: * (وأكن من الص‍الحين) * بالعطف على موضع * (فأصدق) * كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن، وإلى هذا ذهب أبو علي الفارسي. والزجاج، وحكى سيبويه عن الخليل أنه على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني لأن الشرط غير ظاهر ولا يقدر حتى يعتبر العطف على الموضع كما في قوله تعالى: * (من يضلل الله فلا هادي له) * (الأعراف: 186) ويذرهم فيمن قرأ بالجزم وهو حسن بيد أن التعبير بالتوهم هنا ينشأ منه توهم قبيح، والفرق بين العطف
(١١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 111 112 113 114 115 117 118 119 120 121 122 ... » »»