تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٨ - الصفحة ١١٥
* (إذا جاءك المنافقون قالوا: نشهد إنك لرسول الله) * حتى بلغ * (ليخرجن الأعز منها الأذل) * (المنافقون: 1 - 8) وقد تقدم عن البخاري ما يدل على أنه قائل ذلك أيضا.
وأخرج الإمام أحمد. ومسلم. والنسائي نحو ذلك، والأخبار فيه أكثر من أن تحصى؛ وتلك الغزاة التي أشار إليها زيد قال سفيان: يرون أنها غزاة بني المصطلق، وفي " الكشاف " خبر طويل في القصة يفهم منه أنهم عنوا بمن عند رسول الله فقراء المهاجرين، والظاهر أن التعبير - برسول الله صلى الله عليه وسلم - أي بهذا اللفظ وقع منهم ولا يأباه كفرهم لأنهم منافقون مقرون برسالته عليه الصلاة والسلام ظاهرا.
وجوز أن يكونوا قالوه تهكما أو لغلبته عليه الصلاة والسلام حتى صار كالعلم لم يقصد منه إلا الذات، ويحتمل أنهم عبروا بغير هذه العبارة فغيرها الله عز وجل إجلالا لنبيه عليه الصلاة والسلام وإكراما، والانفضاض التفرق، و * (حتى) * للتعليل أي لا تنفقوا عليهم كي يتفرقوا عنه عليه الصلاة والسلام ولا يصحبوه.
وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي - ينفضوا - من أنفض القوم فنى طعامهم فنفض الرجل وعاءه، والفعل مما يتعدى بغير الهمزة وبالهمزة لا يتعدى، قال في " الكشاف ": وحقيقته حان لهم أن ينفضوا مزاودهم، وقوله تعالى: * (ولله خزائن بالسموات والأرض) * رد وإبطال لما زعموا من أن عدم إنفاقهم على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدي إلى انفضاضهم عنه عليه الصلاة والسلام ببيان أن خزائن الأرزاق بيد الله تعالى خاصة يعطي منها من يشاء ويمنع من يشاء * (ول‍اكن المن‍افقين لا يفقهون) * ذلك لجهلهم بالله تعالى وبشؤنه عز وجل، ولذلك يقولون من مقالات الكفرة ما يقولون.
* (يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ول‍اكن المن‍افقين لا يعلمون) *.
* (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) * قائله كما سمعت ابن أبي، وعنى بالأعز نفسه أو ومن يلوذ به، وبالأذل من أعزه الله عز وجل وهو الرسول صلى الله عليه وسلم أو هو عليه الصلاة والسلام والمؤمنون، وإسناد القول المذكور إلى جميعهم لرضاؤهم به كما في سابقه. وقرأ الحسن. وابن أبي عبلة. والسبتي في اختياره - لنخرجن - بالنون، ونصب * (الأعز والأذل) * على أن * (الأعز) * مفعول به، و * (الأذل) * إما حال بناءا على جواز تعريف الحال، أو زيادة أل فيه نحو أرسلها العراك، وأدخلوا الأول فالأول وهو المشهور في تخريج ذلك، أو حال بتقدير مثل وهو لا يتعرف بالإضافة أي مثل الأذل، أو مفعول به لحال محذوفة أي مشبها الأذل، أو مفعول مطلق على أن الأصل إخراج الأذل فحذف المصدر المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه.
وحكى الكسائي. والفراء أن قوما قرأوا - ليخرجن - بالياء مفتوحة وضم الراء. ورفع * (الأعز) * على الفاعلية. ونصب * (الأذل) * على ما تقدم، بيد أنك تقدر على تقدير النصب على المصدرية خروج، وقرىء - ليخرجن - بالياء مبنيا للمفعول، ورفع * (الأعز) * على النيابة عن الفاعل، ونصب * (الأذل) * على ما مر.
وقرأ الحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني - لنخرجن - بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء، ونصب * (الأعز. والأذل) *، وحكى هذه القراءة أبو حاتم، وخرجت على أن نصب * (الأعز) * على الاختصاص كما في قولهم: نحن العرب أقرى الناس للضيف، ونصب * (الأذل) * على أحد الأوجه المارة فيما حكاه الكسائي. والفراء، والمقصود إظهار التضجر من المؤمنين وأنهم لا يمكنهم أن يساكنوهم في دار كذا قيل: وهو كما ترى، ولعل هذه القراءة غير ثابة عن الحسن، وقوله تعالى: * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * رد لما زعموه ضمنا من عزتهم وذل من نسبوا إليه الذل، وحاشاه منه أي ولله تعالى الغلبة والقوة ولمن أعزه الله تعالى من رسوله صلى الله عليه وسلموالمؤمنين لا للغير، ويعلم مما أشرنا إليه توجيه الحصر المستفاد من تقديم الخبر، وقيل: إن العطف معتبر قبل نسبة الإسناد فلا ينافي ذلك ولا يضر إعادة الجار لأنها ليست لإفادة الاستقلال في النسبة بل لإفادة تفاوت ثبوت العزة فإن ثبوتها لله تعالى ذاتي وللرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة الرسالة وللمؤمنين بواسطة الايمان، وجاء من عدة طرق أن عبد الله بن أبي - وكان مخلصا - سل سيفه على أبيه عندما أشرفوا على المدينة فقال: والله على أن لا أغمده حتى تقول: محمد الأعز وأنا الأذل فلم يبرح حتى قال ذلك، وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه وقف والناس يدخلون حتى جاء أبوه فقال: وراءك، قال: ما لك ويلك؟! قال: والله لا تدخلها أبدا إلا أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتعلمن اليوم الأعز من الأذل فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه ما صنع ابنه فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن خل عنه يدخل ففعل؛ وصح من رواية الشيخين. والترمذي. وغيرهم عن جابر بن عبد الله أنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ابن أبي قام عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " وفي رواية عن قتادة أنه قال له عليه الصلاة والسلام: يا نبي الله مر معاذا أن يضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم، وفي الآية من الدلالة على شرف المؤمنين ما فيها، ومن هنا قالت بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة: ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغني الذي لا فقر معه.
وعن الحسن بن علي على رسول الله وعليهما الصلاة والسلام أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيها قال: ليس بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية، وأريد بالتيه الكبر، وأشار العز إلى أن العزة غير الكبر، وقد نص على ذلك أبو حفص السهر وردي قدس سره فقال: العزة غير الكبر لأن العزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها أن لا يضعها لأقسام عاجلة كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها، فالعزة ضد الذلة كما أن الكبر ضد التواضع، وفسر الراغب العزة بحالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم: أرض عزاز أي صلبة وتعزز اللحم اشتد كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه، وقد تستعار للحمية والأنفة المذمومة وهي بهذا المعنى تثبت للكفرة، وتفسيرها بالقوة والغلبة كما سمعت شائع ولك أن تريد بها هنا الحالة المانعة من المغلوبية فأنها أيضا ثابتة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين على الوجه اللائق بكل.
* (ول‍اكن المن‍افقين لا يعلمون) * من فرط جهلهم وغرورهم فيهذون ما يهذون والفعل هنا منزل منزلة اللازم فلذا لم يقدر له مفعول ولا كذلك الفعل فيما تقدم، وهو ما اختاره غير واحد من الأجلة، وقيل في وجهه: إن كون العزة لله عز وجل مستلزم لكون الأرزاق بيده دون العكس فناسب أن يعتبر الأخلاق في الجملة المذيلة لما يفيد كون العزة له سبحانه قصدا للمبالغة والتقييد للجملة المذيلة لما يفيد كون الأرزاق بيده تعالى، ثم قيل: خص الجملة الأولى ب * (- لا يفقهون) * والثانية ب * (- لا يعلمون) * لأن إثبات الفقه للإنسان أبلغ من إثبات العلم له فيكون نفي العلم أبلغ من نفي الفقه فأوثر ما هو أبلغ لما هو ادعى له.
وعن الراغب معنى قوله تعالى: * (هم الذين يقولون لا تنفقوا) * (المنافقون: 7) الخ أنهم يأمرون بالاضرار بالمؤمنين وحبس
(١١٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 110 111 112 113 114 115 117 118 119 120 121 ... » »»