يستمطرون عندها الأنوار تبركا بها، والظاهر أن (الثالثة الأخرى) صفتان لمناة وهما على ما قيل: للتأكيد فإن كونها ثالثة وأخرى مغايرة لما تقدمها معلوم غير محتاج للبيان، وقال بعض الأجلة: (الثالثة) للتأكيد، و (الأخرى) للذم بأنها متأخرة في الرتبة وضيعة المقدار، وتعقبه أبو حيان بأن آخر ومؤنثة أخرى لم يوضعا لذم ولا لمدح وإنما يدلان على معنى غير، والحق أن ذلك باعتبار المفهوم الأصلي وهي تدل على ذم السابقتين أيضا قال في الكشف: هي اسم ذم يدل على وضاعة السابقتين بوجه أيضا لأن * (أخرى) * تأنيث آخر تستدعي المشاركة مع السابق فإذا أتى بها لقصد التأخر في الرتبة عملا بمفهومها الأصلي إذ لا يمكن العمل بالمفهوم العرفي لأن السابقتين ليستا ثالثة أيضا استدعت المشاركة قضاءا لحق التفضيل، وكأنه قيل: (الأخرى) في التأخر انتهى وهو حسن، وذكر في نكتة ذم مناة بهذا الذم أن الكفرة كانوا يزعمون أنها أعظم الثلاثة فأكذبهم الله تعالى بذلك.
وقال الإمام: (الأخرى) صفة ذم كأنه قال سبحانه: (ومناة الثالثة) الذليلة وذلك لأن اللات كان على صورة آدمي * (والعزى) * صورة نبات * (ومناة) * صورة صخرة، فالآدمي أشرف من النبات، والنبات أشرف من الجماد - فالجماد متأخر - ومناة جماد فهي في أخريات المراتب، وأنت تعلم أنه لا يتأتى على كل الأقوال، وقيل: (الأخرى) صفة للعزى لأنها ثانية اللات، والثانية يقال لها (الأخرى) وأخرت لموافقة رؤوس الآي، وقال الحسن ابن المفضل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير والعزى الأخرى * (ومناة الثالثة) ولعمري إنه ليس بشيء، والكلام خطاب لعبدة هذه المذكورات وقد كانوا مع عبادتهم لها يقولون: إن الملائكة عليهم السلام وتلك المعبودات الباطلة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فقيل لهم توبيخا وتبكيتا: * (أفرأيتم) * الخ والهمزة للإنكار والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر من شؤون الله تعالى المنافية لها غاية المنافاة وهي علمية عند كثير، ومفعولها الثاني على ما اختاره بعضهم محذوف لدلالة الحال عليه، فالمعنى أعقيب ما سمعتم من آثار كمال عظمة الله عز وجل في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وإحكام قدرته ونفاذ أمره رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها بنات الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى:
* (ألكم الذكر وله الانثى) *.
* (ألكم الذكر وله الأنثى) * توبيخ مبني على ذلك التوبيخ ومداره تفضيل جانب أنفسهم على جنابه عز وجل حيث جعلوا له تعالى الإناث واختاروا لأنفسهم الذكور، ومناط الأول نفس تلك النسبة، وقيل: المعنى * (أرأيتم) * هذه الأصنام مع حقارتها وذلتها شركاء لله سبحانه مع ما تقدم من عظمته، وقيل: المعنى اخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة في الآي السابقة، وقيل: المعنى أظننتم أن هذه الأصنام التي تعبدونها تنفعكم؛ وقيل المعنى * (فرأيتم) * هذه الأصنام إن عبدتموها لا تنفعكم وإن تركتموها لا تضركم، ولا يخفى أن قوله تعالى: * (ألكم) * الخ لا يلتئم مع ما قبله على جميع هذه الأقوال التئامة على القول السابق، وقيل: إن قوله سبحانه: * (ألكم) * الخ في موضع المفعول الثاني للرؤية وخلوها عن العائد إلى المفعول الأول لما أن الأصل أخبروني أن اللات والعزى ومناة ألكم الذكر وله هن أي تلك الأصنام فوضع موضعها الأنثى لمراعاة الفواصل وتحقيق مناط التوبيخ وهو على تكلفه يقتضي اقتصار التوبيخ على ترجيح جانبهم الحقير الذليل على جناب الله تعالى العزيز الجليل من غير تعرض للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه، وفي الكشف وجه النظم الجليل أنه بعدما صور أمر الوحي تصويرا تاما وحققه بأن ما يستمعه وحي لا شبهة فيه لأنه رأى الآتي به وعرفه حق المعرفة قال سبحانه: * (أفتمارونه على ما يرى) * (النجم: 12) على معنى أتلاحونه بعد هذه البيانات على ما يرى من الآيات المحقق لأنه على بينة من ربه سبحانه هاديا مهديا، وأني يبقى للمراء مجال - وقد رآه نزلة أخرى -؟!