أنه لم يدخل من أجل ما رأى فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبكيا فقسمت ذلك بينهما فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يبكيان فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما فقال يا ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج فإن هؤلاء أهل بيتي ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا " والمسح بكسر فسكون ثوب من عشر غليظ، والقلبين تثنية قلب بضم فسكون السوار، والعصب بفتح فسكون قال الخطابي إن لم يكن الثياب فما أدري ما هو وما أدري أن القلائد تكون منها، ويحتمل أن الرواية بفتح الصاد وهو إطناب مفاصل الحيوان فلعلهم كانوا يتخذون من طاهره مثل الخرز.
قال ثم ذكر بعض أهل اليمن أن العصب سن دابة بحرية تسمى فرس فرعون يتخذ منها الخرز البيض وغيرها، وأحاديث الزهد في طيبات الحياة الدنيا كثيرة وحال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك معروفة بين الأمة. وفي " البحر " بعد حكاية حال عمر رضي الله تعالى عنه على نحو مما ذكرنا، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وهذا من باب الزهد وإلا فالآية نزلت في كفار قريش، والمعنى أنه كانت لكم طيبات الآخرة لو آمنتم لكنكم لم تؤمنوا فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا. فهذه كناية عن عدم الإيمان ولذلك ترتب عليه * (فاليوم تجزون عذاب الهون) * ولو أريد الظاهر ولم يكن كناية عما ذكرنا لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب، هذا ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا معرضين عن الإيمان وما جاء بهم الرسول صلى الله عليه وسلم ناسب تذكيرهم بما جرى للعرب الأولى ممن كانوا أكثر أموالا وأشد قوة وأعظم جاها منهم فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم وبضرب الأمثال وقصص من تقدم يعرف قبح الشيء وحسنه فقال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم:
* (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالاحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إنىأخاف عليكم عذاب يوم عظيم) *.
* (واذكر) * لكفار مكة * (أخا عاد) * هودا عليه السلام * (إذ أنذر قومه) * بدل اشتمال منه أي وقت إنذاره إياهم * (بالأحقاف) * جمع حقف رمل مستطيل فيه اعوجاج وانحناء ويقال احقوقف الشيء اعوج وكانوا بدويين أصحاب خباء وعمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها السحر من بلاد اليمن قاله ابن زيد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بين عمان ومهرة، وفي رواية أخرى عنه الأحقاف جبل بالشام، وقال ابن إسحاق: مساكنهم من عمان إلى حضرموت؛ وقال ابن عطية الصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن ولهم كانت ارم ذات العماد وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في إرم وبيان الحق فيها.
* (وقد خلت النذر) * أي الرسل كما هو المشهور، وقيل من يعمهم والنواب عنهم جمع نذير بمعنى منذر.
وجوز كون * (النذر) * جمع نذير بمعنى الإنذار فيكون مصدرا وجمع لأنه يختلف باختلاف المنذر به. وتعقب بأن جمعه على خلاف القياس ولا حاجة تدعو إليه * (من بين يديه) * أي من قبله عليه السلام * (ومن خلفه) * أي من بعده وقرىء به ولولا ذلك لجاز العكس، والظاهر أن المراد النذر المتقدمون عليه والمتأخرون عنه. وعن ابن عباس يعني الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه، فمعنى * (من خلفه) * من بعد إنذاره، وعطف * (من خلفه) * أي من بعده على ما قبله إما من باب: علفتها تبنا وماء باردا وفيه أقوال فقيل عامل الثاني مقدر أي وسقيتها ماء ويقال في الآية أي خلت النذر من بين يديه وتأتي من خلفه؛ وقيل إنه مشاكلة، وقيل: إنه من قبيل الاستعارة بالكناية، وإما لإدخال الآتي في سلك الماضي قطعا بالوقوع وفيه شائبة الجمع بين الحقيقة والمجاز، وجوز أن