يعتبروا بها ويستدلوا بأحوالها على عظيم قدرة الله عز وجل وسابغ رحمته ويشكروه ولا يكفروه. وخص هذا بالحيوان لما أن محل العبرة فيه أظهر.
وقوله تعالى: * (نسقيكم مما في بطونها) * تفصيل لما فيها من مواقع العبرة. وما في بطونها عبارة إما عن الألبان فمن تبعيضية والمراد بالبطون الأجواف فإن اللبن في الضروع أو عن العلق الذي يتكون منه اللبن فمن ابتدائية والبطون على حقيقتها. وأيا ما كان فضمير * (بطونها) * للانعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل لا للإناث منها على الاستخدام لأن عموم ما بعده يأباه، وقرىء بفتح النون وبالتاء أي تسقيكم الأنعام.
* (ولكم فيها منافع كثيرة) * غير ما ذكر من أصوافها وأشعارها وأوبارها * (ومنها تأكلون) * الظاهر أن الأكل على معناه الحقيقي ومن تبعيضية لأن من أجزاء الأنعام مالا يؤكل. وتقديم المعمول للفاصلة أو للحصر الإضافي بالنسبة إلى الحمير ونحوها أو الحصر باعتبار ما في * (تأكلون) * من الدلالة على العادة المستمرة. وكان هذا بيان لانتفاعهم بأعيانها وما قبله بيان لانتفاعهم بمرافقها وما يحصل منها. ويجوز عندي ولم أر من صرح به أن يكون الأكل مجازا أو كناية عن التعيش مطلقا كما سمعت قبل أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم.
* (وعليها وعلى الفلك تحملون) *.
* (وعليها وعلى الفلك تحملون) * في البر والبحر بأنفسكم وأثقالكم. وضمير * (عليها) * للانعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل أيضا. ويجوز أن يكون لها باعتبار أن المراد بها الإبل على سبيل الاستخدام لأنها هي المحمول عليها عندهم والمناسبة للفلك فإنها سفائن البر قال ذو الرمة في صيدحه: سفينة بر تحت خدي زمامها وهذا مما لا بأس به. وأما حمل الأنعام من أول الأمر على الابل فلا يناسب مقام الامتنان ولا سياق الكلام، وفي الجمع بينهما وبين الفلك في إيقاع الحمل عليها مبالغة في تحملها للحمل، قيل: وهذا هو الداعي إلى تأخير هذه المنفعة مع كونها من المنافع الحاصلة منها عن ذكر منفعة الأكل المتعلقة بعينها.
* (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره أفلا تتقون) *.
* (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) * شروع في بيان إهمال الناس وتركهم النظر والاعتبار فيما عدد سبحانه من النعم وما حاقهم من زوالها وفي ذلك تخويف لقريش.
وتقديم قصة نوح عليه السلام على سائر القصص مما لا يخفى وجهه، وفي إيرادها إثر قوله تعالى: * (وعليها وعلى الفلك تحملون) * من حسن الموقع ما لا يوصف ، وتصديرها بالقسم لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها، والكلام في نسب نوح عليه السلام وكمية لبثه في قومه ونحو ذلك قد مر، والأصح أنه عليه السلام لم تكن رسالته عامة بل أرسل إلى قوم مخصوصين * (فقال) * متعطفا عليهم ومستميلا لهم إلى الحق * (يا قوم اعبدوا الله) * أي اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله تعالى في سورة (هود: 2) * (ألا تعبدوا إلا الله) * وترك التقييد به للإيذان بأنها هي العبادة فقط وأما العبادة مع الإشراك فليست من العبادة في شيء رأسا، وقوله تعالى: * (ما لكم من إله غيره) * استئناف مسوق لتعليل العبادة المأمور بها أو تعليل الأمر بها، و * (غيره) * بالرفع صفة لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على أنه فاعل - بلكم - أو مبتدأ خبره * (لكم) * أو محذوف ودلكم) * للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود إله غيره تعالى. وقرىء * (غيره) * بالجر اعتبارا للفظ * (إله) * * (أفلا تتقون) * الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أتعرفون ذلك أي مضمون قوله تعالى * (ما لكم من إله