والمعنى لو كان نبيا لكان له ذكر في آبائنا الأولين، وعلى هذين القولين يكون قولهم المذكور من متأخري قومه المولودين بعد بعثته بمدة طويلة فيكون المراد من آبائهم الأولين من مضى قبلهم في زمنه عليه الصلاة والسلام، وصدور ذلك عنهم في أواخر أمره عليه السلام وقيل: بعد مضي آبائهم ولا يلزم أن يكون في الأواخر، وعليهما أيضا يكون قولهم:
* (إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين) *.
* (إن هو) * أي ما هو * (إلا رجل به جنة) * أي جنون أو جن يخبلونه ولذلك يقول ما يقول * (فتربصوا به) * فاحتملوه واصبروا عليه وانتظروا * (حتى حين) * لعله يفيق مما هو فيه محمولا على ترامي أحوالهم في المكابرة والعناد وإضرابهم عما وصفوه عليه السلام به من البشرية وإرادة التفضل إلى وصفه بما ترى وهم يعرفون أنه عليه السلام أرجح الناس عقلا وأرزنهم قولا، وهو على ما تقدم محمول على تناقض مقالاتهم الفاسدة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون.
* (قال رب انصرنى بما كذبون) *.
* (قال) * استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال عليه السلام بعد ما سمع منهم هذه الأباطيل؟ فقيل: قال لما رآهم قد أصروا على ما هم فيه وتمادوا على الضلال حتى يئس من إيمانهم بالكلية وقد أوحى إليه * (أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) * (هود: 36) * (رب انصرني) * بإهلاكهم بالمرة بناء على أنه حكاية إجمالية لقوله عليه السلام: * (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) * الخ، والباء في قوله تعالى: * (بما كذبون) * للسببية أو للبدل وما مصدرية أي بسبب تكذيبهم إياي أو بدل تكذيبهم، وجوز أن تكون الباء آلية وما موصولة أي انصرني بالذي كذبوني به وهو العذاب الذي وعدتهم إياه ضمن قولي: * (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) * (الأعراف: 59) وحاصله انصرني بإنجاز ذلك، ولا يخفى ما في حذف مثل هذا العائد من الكلام. وقرأ أبو جعفر. وابن محيصن * (رب) * بضم الباء ولا يخفى وجهه.
* (فأوحينآ إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جآء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون) *.
* (فأوحينا إليه) * عقيب ذلك، وقيل: بسبب ذلك * (أن اصنع الفلك) * * (أن) * مفسرة لما في الوحي من معنى القول * (بأعيننا) * ملتبسا بمزيد حفظنا ورعايتنا لك من التعدي أو من الزيغ في الصنع * (ووحينا) * وأمرنا وتعليمنا لكيفية صنعها، والفاء في قوله تعالى: * (فإذا جاء أمرنا) * لترتيب مضمون ما بعدها على إتمام صنع الفلك، والمراد بالأمر العذاب كما في قوله تعالى: * (لا عاصم اليوم من أمر الله) * فهو واحد الأمور لا الأمر بالركوب فهو واحد الأوامر كما قيل، والمراد بمجيئه كمال اقترابه أو ابتداء ظهوره أي إذا جاء أثر تمام الفلك عذابنا، وقوله سبحانه: * (وفار التنور) * بيان وتفسير لمجىء الأمر. روي أنه قيل له عليه السلام إذا فار التنور اركب أنت ومن معكم وكان تنور آدم عليه السلام فصار إلى نوح عليه السلام فلما نبع منه الماء أخبرته امرأته فركبوا. واختلفوا في مكانه فقيل كان في مسجد الكوفة أي في موضعه عن يمين الداخل من باب كندة اليوم، وقيل: كان في عين وردة من الشام، وقيل: بالجزيرة قريبا من الموصل، وقيل: التنور وجه الأرض، وقيل: فار التنور مثل كحمى الوطيس، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه فسر * (فار التنور) * بطلع الفجر فقيل: معناه إن فوران التنور كان عند طلوع الفجر وفيه بعد، وتمام الكلام في ذلك قد تقدم لك.
* (فاسلك فيها) * أي أدخل فيها يقال سلك فيه أي دخل فيه وسلكه فيه أي أدخله فيه، ومنه قوله تعالى: * (ما سلككم في سقر) * (المدثر: 42) * (من كل) * أي من كل أمة * (زوجين) * أي فردين مزدوجين كما يعرب عنه قوله تعالى: