حين تعرض حسناتهم على رؤس الأشهاد وأمر السين على ذلك ظاهر. ولعل أفراد هذا الوعد من بين ما سيولون يوم القيامة من الكرامات السنية لما أن الكفرة سيقع بينهم يومئذ تباغض وتضاد وتقاطع وتلاعن، وذكر في وجه الربط أنه لما فصلت قبائح أحوال الكفرة عقب ذلك بذكر محاسن أحوال المؤمنين، وقد يقال فيه بناء على أن ذلك في الآخرة: إنه جل شأنه لما أخبر بإتيان كل من أهل السموات والأرض إليه سبحانه يوم القيامة فردا آنس المؤمنين بأنه جل وعلا يجعل لهم ذلك اليوم ودا، وفسره ابن عطية على هذا الوجه بمحبته تعالى إياهم وأراد منها إكرامه تعالى إياهم ومغفرته سبحانه وتعالى ذنوبهم، وجوز أن يكون الوعد يجعل الود في الدنيا والآخرة ولا أراه بعيدا عن الصواب. ولا يأبى هذا ولا ما قبله التعرض لعنوان الرحمانية لجواز أن يدعى العموم فقد جاء يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
وقرأ أبو الحرث الحنفي * (ودا) * بفتح الواو وقرأ جناح بن حبيش * (ودا) * بكسرها وكل ذلك لغة فيه وكذا في الوداد.
* (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) * * (فإنما يسرناه) * أي القرآن بأن أنزلناه * (بلسانك) * أي بلغتك وهو في ذلك مجاز مشهور والباء بمعنى على أو على أصله وهو الإلصاق لتضمين * (يسرنا) * معنى أنزلنا أي يسرناه منزلين له بلغتك، والفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم كأنه قيل: بعد إيحاء هذه السورة الكريمة بلغ هذا المنزل وأبر به وأنذر فإنما يسرناه بلسانك العرب المبين * (لتبشر به المتقين) * المتصفين بالتقوى لامتثال ما فيه من الأمر والنهي أو الصائرين إليها على أنه من مجاز الأول * (وتنذر به قوما لدا) * لا يؤمنون به لجاجا وعنادا، واللد جمع الألد وهو كما قال الراغب: الخصم الشديد التأبي، وأصله الشديد اللديد أي صفحة العنق وذلك إذا لم يمكن صرفه عما يريده.
وعن قتادة اللذ ذو الجدل بالباطل الآخذون في كل لديد أي جانب بالمراء، وعن ابن عباس تفسير اللديا بالظلمة، وعن مجاهد تفسيره بالفجار، وعن الحسن تفسيره بالصم، وعن أبي صالح تفسيره بالعوج وكل ذلك تفسير باللازم؛ والمراد بهم أهل مكة كما روى عن قتادة.
* (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) * * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن) * وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ضمن وعيد هؤلاء القوم بالإهلاك وحث له عليه الصلاة والسلام على الإنذار أي قرنا كثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المعاندي * (هل تحس منهم من أحد) * استئناف مقرر لمضمون ما قبله، والاستفهام في معنى النفي أي ما تشعر بأحد منهم.
وقرأ أبو حيولا. وأبو حرية. وابن أبي عبلة. وأبو جعفر المدني * (تحس) * بفتح التاء وضم الحاء * (أو تسمع لهم ركزا) * أي صوتا خفيا وأصل التركيب هو الخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز للمال المدفون، وخص بعضهم الركز بالصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم، والأكثرون على الأول، وخص الصوت الخفي لأنه الأصل الأكثر ولأن الأثر الخفي إذا زال فزوال غيره بطريق الأولى.
والمعنى أهلكناهم بالكلية واستأصلناهم بحيث لا ترى منهم أحدا ولا تسمع منهم صوتا خفيا فضلا عن غيره، وقيل: المعنى أهلكناهم بالكلية بحيث لا ترى منهم أحدا ولا تسمع من يخبر عنهم ويذكرهم بصوت خفي، والحاصل أهلكناهم فلا عين ولا خبر، والخطاب إما لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للخطاب.