تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٦ - الصفحة ١٥٥
تعالى قيل: الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء كما في قوله:
قد استوى بشر على العراق وتعقب بأن الاستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز، وذلك محال في حقه تعالى، وأيضا إنما يقال: استولى فلان على كذا إذا كان له منازع ينازعه وهو في حقه تعالى محال أيضا، وأيضا إنما يقال ذلك إذا كان المستولى عليه موجودا قبل والعرش إنما حدث بتخليقه تعالى وتكوينه سبحانه، وأيضا الاستيلاء واحد بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة.
وأجاب الإمام الرازي بأنه إذا فسر الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية، ولا يخفى حال هذا الجواب على المنصف، وقال الزمخشري: لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلا مع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون ملك وإن لم يقعد على العرش البتة وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة بمعنى أنه جواد أو بخيل ولا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم تكن له يد رأسا قيل فيه يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم: جواد ومنه قوله تعالى: * (وقالت اليهود يد الله) * (المائدة: 64) الآية عنوا الوصف بالبخل ورد عليهم بأنه جل جلاله جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط انتهى، وتعقبه الإمام قائلا: إنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية فإنهم يقولون أيضا: المراد من قوله تعالى: * (اخلع نعليك) * (طه: 12) الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور نعل، وقوله تعالى: * (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) * (الأنبياء: 69) المراد منه تخليص إبراهيم عليه السلام عن يد ذلك الظالم من غير أن يكون هناك نار وخطاب البتة. وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله تعالى بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه، وليست من لم يعرف شيئا لم يخص فيه انتهى، ولا يخفى عليك أنه لا يلزم من فتح الباب في هذه الآية انفتاح تأويلات الباطنية فيما ذكر من الآيات إذ لا داعي لها هناك والداعي للتأويل بما ذكره الزمخشري قوي عنده، ولعله الفرار من لزوم المحال مع رعاية جزالة المعنى فإن ما اختاره أجزل من معنى الاستيلاء سواء كان معنى حقيقيا للاستواء كما هو ظاهر كلام الصحاح والقاموس وغيرهما أو مجازيا كما هو ظاهر جعلهم الحمل عليه تأويلا. واستدل الإمام على بطلان إرادة المعنى الظاهر بوجوه. الأول: أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولما خلق الخلق لم يحتج إلى ما كان غنيا عنه. الثاني: أن المستقر على العرش لا بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الجزء الحاصل منه في يساره فيكون سبحانه وتعالى في نفسه مؤلفا وهو محال في حقه تعالى للزوم الحدوث. الثالث: أن المستقر على العرش أما أن يكون متمكنا من الانتقال والحركة ويلزم حينئذ أن يكون سبحانه وتعالى محل الحركة والسكون وهو قول بالحدوث أو لا يكون متمكنا من ذلك فيكون جل وعلا كالزمن بل أسوأ حالا منه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. الرابع: أنه إن قيل بتخصيصه سبحانه وتعالى بهذا المكان وهو العرش احتيج إلى مخصص وهو افتقار ينزه الله تعالى عنه، وإن قيل بأنه عز وجل يحصل بكل مكان لزم مالا يقوله عاقل. الخامس: أن قوله تعالى: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) عام في نفي المماثلة فلو كان جالسا لحصل من يماثله في الجلوس فحينئذ تبطل الآية. السادس: أنه تعالى لو كان مستقرا على العرش لكان محمولا
(١٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 150 151 152 153 154 155 156 157 158 159 160 ... » »»