تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٣ - الصفحة ٨٠
دنا وصال الحبيب واقتراب * واطربا للوصال واطرابا * (وقال يا أسفي على يوسف) * قال بعض العارفين: إن تأسفه على رؤية جمال الله تعالى من مرآة وجه يوسف عليه السلام وقد تمتع بذلك برهة من الزمان حتى حالت بينه وبينه طوارق الحدثان فتأسف عليه السلام لذلك واشتاقت نفسه لما هناك. سقى الله أياما لنا ولياليا * مضت فجرت من ذكرهن دموع فياهل لها يوما من الدهر أوبة * وهل لي إلى أرض الحبيب رجوع * (وابيضت عيناه من الحزن) * (يوسف: 84) حيث بكى حتى أضر بعينيه وكان ذلك حتى لا يرى غير حبيبه. لما تيقنت أني لست أبصركم * غمضت عيني فلم أنظر إلى أحد قال بعض العارفين: الحكمة في ذهاب بصر يعقوب وبقاء بصر آدم وداود عليهما السلام مع أنهما بكيا دهرا طويلا إن بكاء يعقوب كان بكاء حزن معجون بألم الفراق حيث فقد تجلى جمال الحق من مرآة وجه يوسف ولا كذلك بكاء آدم وداود فإنه كان بكاء الندم والتوبة وأين ذلك المقام من مقام العشق، وقال أبو سعيد القرشي: إنما لم يذهب بصرهما لأن بكاءهما كان من خوف الله تعالى فحفظا وبكاء يعقوب كان لفقد لذة فعوتب، وقيل: يمكن أن يكون ذهاب بصره عليه السلام من غيرة الله تعالى عليه حين بكى لغيره وإن كان واسطة بينه وبينه، ولهذا جاء أن الله تعالى أوحى إليه يا يعقوب أتتأسف على غيري وعزتي لآخذن عينيك ولا أردهما عليك حتى تنساه، واختار بعض العارفين أن ذلك الأسف والبكاء ليسا إلا لفوات ما انكشف له عليه السلام من تجلى الله تعالى في مرآة وجه يوسف عليه السلام، ولعمري أنه لو كان شاهد تجليه تعالى في أول التعنيات وعين أعيان الموجودات صلى الله عليه وسلم لنسي ما رأى ولما عراه ما عرا ولله تعالى در سيدي ابن الفارض حيث يقول:
لو أسمعوا يعقوب بعض ملاحة * في وجهه نسي الجمال اليوسفي * (قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين) * (يوسف: 85) هذا من الجهل بأحوال العشق وما عليه العاشقون فإن العاشق يتغذى بذكر معشوقه. فإن تمنعوا ليلى وحسن حديثها * فلن تمنعوا مني البكا والقوافيا وإذا لم يستطع ذكره بلسانه كان مستغرقا بذكره إياه بجنانه: غاب وفي قلبي له شاهد * يولع إضماري بذكراه مثلت الفكرة لي شخصه * حتى كأني أتراآه وكيف يخوف العاشق بالهلاك في عشق محبوبه وهلاكه عين حياته كما قيل: ولكن لدى الموت فيه صبابة * حياة لمن أهوى علي بها الفضل ومن لم يمت في حبه لم يعش به * ودون اجتناء النحل ما جنت النحل * (قال إنما أشكو بني وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون) * (يوسف: 86) أي أنا لا أشكو إلى غيره فإني أعلم غيرته سبحانه وتعالى على أحبابه وأنتم لا تعلمون ذلك، وأيضا من انقطع إليه تعالى كفاه ومن أناخ ببابه أعطاه، وأنشد ذو النون.
(٨٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 ... » »»