تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٣ - الصفحة ٨٢
اعترافهم واعتذارهم قال: * (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) * (يوسف: 92) وهذا من شرائط الكرم فالكريم إذا قدر عفا. والعذر عند كرام الناس مقبول وقال شاه الكرماني: من نظر إلى الخلق بعين الحق لم يعبأ بمخالفتهم ومن نظر إليهم بعينه أفنى أيامه بمخاصمتهم، ألا ترى يوسف عليه السلام لما علم مجاري القضاء كيف عذر إخوته * (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا) * لما علم عليه السلام أن أباه عليه السلام لا يحتمل الوصال الكلي بالبديهة جعل وصاله بالتدريج فأرسل إليه بقميصه، ولما كان مبدأ الهم الذي أصابه من القميص الذي جاؤا عليه بدم كذب عين هذا القميص مبدأ للسرور دون غيره من آثاره عليه السلام ليدخل عليه السرور من الجهة التي دخل عليه الهم منها * (وأتوني بأهلكم أجمعين) * (يوسف: 93) كان كرم يوسف عليه السلام يقتضي أن يسير بنفسه إلى أبيه ولعله إنما لم يفعل لعلمه أن ذلك يشق على أبيه لكثرة من يسير معه ولا يمكن أن يسير إليه بدون ذلك أو لأن في ذلك تعطل أمر العامة وليس هناك من يقوم به غيره، ويحتمل أن يكون أوحى إليه بذلك لحكمة أخرى، وقيل: إن المعشوقية اقتضت ذلك، ومن رأى معشوقا رحيما بعاشقه؟، وفيه ما لا يخفى * (ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف) * (يوسف: 94) يقال: إن ريح الصبا سألت الله تعالى فقالت: يا رب خصني أن أبشر يعقوب عليه السلام بابنه فأذن لها بذلك فحملت نشره إلى مشامه عليه السلام وكان ساجدا فرفع رأسه وقال ذلك وكان لسان حاله يقول:
أيا جبلي نعمان بالله خليا * نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها أجد بردها أو تشف مني حرارة * على كبد لم يبق إلا صميمها فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت * على نفس مهموم تجلت همومها وهكذا عشاق الحضرة لا يزالون يتعرضون لنفحات ريح وصال الأزل، وقد قال عليه الصلاة والسلام: " إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لنفحات الرحمن " ويقال: المؤمن المتحقق يجد نسيم الإيمان في قلبه وروح المعرفة السابقة له من الله تعالى في سره، وإنما وجد عليه السلام هذا الريح حيث بلغ الكتاب أجله ودنت أيام الوصال وحان تصرم أيام الهجر والبلبال وإلا فلم لم يجده عليه السلام لما كان يوسف في الجب ليس بينه وبينه إلا سويعة من نهار وما ذلك إلا لأن الأمور مرهونة بأوقاتها، وعلى هذا كشوفات الأولياء فإنهم آونة يكشف لهم على ما قيل اللوح المحفوظ، وأخرى لا يعرفون ما تحت أقدامهم * (فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا) * (يوسف: 97) فيه إشارة إلى أن العاشق الهائم المنتظر لقاء الحق سبحانه إذا ذهبت عيناه من طول البكاء يجىء إليه بشير تجليه فيلقى عليه قميص أنسه في حضرات قدسه فيرتد بصيرا بشم ذلك فهنالك يرى الحق بالحق وينجلي الغين عن العين، ويقال: إنه عليه السلام إنما ارتد بصيرا حين وضع القميص على وجهه لأنه وجد لذة نفحة الحق تعالى منه حيث كان يوسف عليه السلام محل تجليه جل جلاله وكان القميص معبقا بريح جنان قدسه فعاد لذلك نور بصره عليه السلام إلى مجاريه فأبصر * (قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم) * (يوسف: 98) وعدهم إلى أن يتعرف منهم صدق التوبة أو حتى يستأذن ربه تعالى في الاستغفار لهم فيأذن سبحانه لئلا يكون مردودا فيه كما رد نوح عليه السلام في ولده بقوله تعالى: * (إنه ليس من أهلك) * (هود: 46) وقال بعضهم: وعدهم الاستغفار لأنه لم يفرغ بعد من استبشاره إلى استغفاره، وقيل: إنما أسرع يوسف بالاستغفار لهم ووعد
(٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 ... » »»