تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٣ - الصفحة ٧٧
له إلا الذب عن ساحة النبوة التي هي أمانة الله تعالى العظمى فقال: * (هي راودتني عن نفسي) * (يوسف: 26) وإلا فاللائق بمقام الكرم السكوت عن جوابها لئلا يفضحها، وقيل: إنها لما ادعت محبة يوسف وتبرأت منها عند نزول البلاء أراد يوسف عليه السلام أن يلزمها ملامة المحبة فإن الملامة شعار المحبين ومن لم يكن ملوما في العشق لم يكن متحققا فيه * (إن كيدكن عظيم) * (يوسف: 28) عظم كيدهن لأنهن إذا ابتلين بالحب أظهرن مما يجلب القلب ما يعجز عنه إبليس مع مساعدة الطبيعة إلى الميل إليهن وقوة المناسبة بين الرجال وبينهن كما يشير إليه قوله تعالى: * (خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) * (النساء: 1) فما في العالم فتنة أضر على الرجال من النساء * (قد شغفها حبا) * قال الجنيد قدس سره: الشغف أن لا يرى المحب جفاء له جفاء بل يراه عدلا منه ووفاء. وتعذيبكم عذب لدى وجوركم * علي بما يقضي الهوى لكم عدل * (إنا لنراها في ضلال مبين) * (يوسف: 3) قال ابن عطاء: في عشق مزعج * (فلما رأينه أكبرنه) * عظمنه لما رأين في وجهه نور الهيبة * (وقطعن أيديهن) * لاستغراقهن في عظمته وجلاله، ولعله كشف لهن ما لم يكشف لزليخا، قال ابن عطاء: دهشن في يوسف وتحيرن حتى قطعن أيديهن ولم يشعرن بالألم وهذه غلبة مشاهدة مخلوق لمخلوق فكيف بمن يحظى بمشاهدة من الحق فينبغي أن لا ينكر عليه إن تغير وصدر عنه ما صدر، وأعظم من يوسف عليه السلام في هذا الباب عند ذوي الأبصار السليمة النور المحمدي المنقدح من النور الإلهي والمتشعشع في مشكاة خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام فإنه لعمري أبو الأنوار، وما نور يوسف بالنسبة إلى نوره عليه الصلاة والسلام إلا النجم وشمس النهار. لواحي زليخا لو رأين جبينه * لآثرن بالقطع القلوب على الإيدي وقلن: * (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) * (يوسف: 31) قلن ذلك إعظاما له عليه السلام من أن يكون من النوع الإنساني، قال محمد بن علي رضي الله تعالى عنهما: أردن ما هذا بأهل أن يدعى إلى المباشرة بل مثله من يكرم وينزه عن مواضع الشبه والأول أوفق بقولها: * (فذلكن الذي لمتنني فيه) * (يوسف: 32) أرادت أن لومكن لم يقع في محزه وكيف يلام من هذا محبوبه، وكأنها أشارت إلى أنها مجبورة في ذلك الوله معذورة في مزيد حبها له: خليلي إني قلت بالعدل مرة * ومنذ علاني الحب مذهبي الجبر وفي ذلك إشارة أيضا إلى أن اللوم لا يصدر إلا عن خلي، ولذا لم تعاتبهن حتى رأت ما صنع الهوى بهن وما أحسن ما قيل: وكنت إذا ما حدث الناس بالهوى * ضحكت وهم يبكون في حسرات فصرت إذا ما قيل هذا متيم * تلقيتهم بالنوح والعبرات وقال سلطان العاشقين: دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى * فإذا عشقت فبعد ذلك عنف * (قال رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه) * (يوسف: 33) قيل: لأن السجن مقام الانس والخلوة والمناجاة والمشاهدات والمواصلات وفيما يدعونه إليه ما يوجب البعد عن الحضرة والحجاب عن مشاهدة القربة، وقيل: طلب السجن ليحتجب عن زليخا فيكون ذلك سببا لازدياد عشقها وانقلابه روحانيا قدسيا كعشق أبيه له، وقال ابن عطاء: ما أراد عليه السلام بطلب ذلك إلا الخلاص من الزنا ولعله لو ترك الاختيار لعصم من غير امتحان كما عصم في
(٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 ... » »»