أولا بأنه من جنس ما هو أشرف الأماكن المعروفة عندهم من الجنات ذات الأنهار الجارية لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن سوائب الكدورات التي لا تكاد تخلو عنها أماكن الدنيا وأهلها وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ثم وصف بأنه دار إقامة بلا ارتحال وثبات بلا زوال ولا يعد هذا تكرارا لقوله سبحانه: * (خالدين فيها) * كما لا يخفى ثم وعدهم جل شأنه كما يفهم من الكلام هو ما أجل وأعلى من ذلك كله بقوله تبارك وتعالى: * (ورضوان من الله) * أي وقدر يسير من رضوانه سبحانه * (أكبر) * ولقصد إفادة ذلك عدل عن رضوان الله الأخضر إلى ما في النظم الجليل، وقيل: إفادة العدول كون ما ذكر أظهر في توجه الرضوان إليهم، ولعله إنما لم يعبر بالرضا تعظيما لشأن الله تعالى في نفسه لأن في الرضوان من المبالغة ما لا يخفى ولذلك لم يستعمل في القرآن إلا في رضاء الله سبحانه، وإنما كان ذلك أكبر لأنه مبدأ لحلول دار الإقامة ووصول كل سعادة وكرامة وهو غاية أرب المحبين ومنتهى أمنية الراغبين.
وقد أخرج الشيخان. وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعذ أحدا من خلقك. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك يا ربنا؟ فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا " ولعل عدم نظم هذا الرضوان في سلك الوعد على طرز ما تقدم مع عزته في نفسه لأنه متحقق في ضمن كل موجود ولأنه مستمر في الدارين * (ذالك) * أي جميع ما ذكر * (هو الفوز العظيم) * دون ما يعده الناس فوزا من خظوظ الدنيا فإنها مع قطع النظر عن فنائها وتغيرها وتنغصها بالآلام ليست بالنسبة إلى أدنى شيء من نعيم الآخرة إلا بمثابة جناج البعوض، وفي الحديث " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي منها كافرا شربة ماء " ولله در من قال: تالله لو كانت الدنيا باجمعها * تبقى علينا وما من رزقها رغدا ما كان من حق حر أن يذل بها * فكيف وهي متاع يضمحل غدا وجوز أن تكون الإشارة إلى الرضوان فهو فوز عظيم يستحقر عنده نعيم الدنيا وحظوظها أيضا أو الدنيا ونعيمها والجنة وما فيها، وعلى الاحتمالين لا ينافي قوله سبحانه: * (أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم) * (التوبة: 89) فقد فسر فيه - العظيم - بما يستحقر عنده نعيم الدنيا فتدبر.
* (ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير) *.
* (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) * ظاهره يقتضي مقاتلة المنافقين وهم غير مظهرين للكفر ولا نحكم بالظاهر لأنا نحكم بالظاهر كما في الخبر ولذا فسر ابن عباس. والسدى. ومجاهد جهاد الأولين بالسيف والآخرين باللسان وذلك بنحو الوعظ والزام الحجة بناء على أن الجهاد بذل الجهد في دفع ما لا يرضى وهو أعم من أن يكون بالقتال أو بغيره فإن كان حقيقة فظاهر والأحمل على عموم المجاز. وروي عن الحسن. وقتادة أن جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم. واستشكل بأن إقامتها واجبة على غيرهم أيضا فلا يختص ذلك بهم. وأشار في الأحكام إلى دفعه بأن أسباب الحد في زمنه صلى الله عليه وسلم أكثر ما صدرت عنهم، وأما القول بأن المنافق بمعنى