تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ١٦٢
وأنت تعلم أن القول بإيداع القوى في الفلكيات بل وفي جميع الأسباب مع القول بأنها مؤثرة بإذن الله تعالى مما لا بأس به بل هو المذهب المنصور الذي درج عليه سلف الأمة وحققناه فيما قبل وهو لا ينافي استناد الكل إلى مسبب الأسباب ولا يزاحم جريان الأمور كلها بقضائه وقدره تعالى شأنه، نعم القول بأن الفلكيات ونحوها مؤثرة بنفسها ولو لم يأذن الله تعالى ضلال واعتقاده كفر، وعلى ذلك يخرج ما وقع في الخبر " من قال: أمطرنا بنوء كذا فهو كافر بالله تعالى مؤمن بالكوكب ومن قال: أمطرنا بفضل الله تعالى فهو مؤمن بالله تعالى كافر بالكوكب " فليحفظ.
* (ربنآ إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار) *.
* (ربنا انك من تدخل النار فقد أخزيته) * مبالغة في استدعاء الوقاية من النار وبيان لسببه، وصدرت الجملة بالنداء مبالغة في التضرع إلى معود الاحسان كما يشعر به لفظ الرب، وعن ابن عباس أنه كان يقول: اسم الله تعالى الأكبر رب رب، والتأكيد بأن الإظهار كمال اليقين بمضمون الجملة، والإيذان بشدة الخوف ووضع الظاهر موضع الضمير للتهويل، وذكر الإدخال في موارد العذاب لتعيين كيفيته وتبيين غاية فظاعته والإخزاء - كما قال الواحدي - جاء لمعان متقاربة فعن الزجاج يقال: أخرى الله تعالى العدو أي أبعده، وقيل: أهانه، وقيل: فضحه، وقيل: أهلكه، ونقل هذا عن المفضل، وقيل: أحله محلا وأوقفه موقفا يستحى منه. وقال ابن الأنباري: الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو بانقطاع حجة أو بوقوع في بلاء؛ والمراد فقد أخزيته خزيا لا غاية وراءه، ومن القواعد المقررة أنه إذا جعل الجزاء أمرا ظاهر اللزوم للشرط سواء كان اللزوم بالعموم والخصوص كما في قولهم: من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك، أو بالاستلزام كما في هذه الآية يحمل على أعظم أفراده وأخصها لتربية الفائدة، ولهذا قيد الخزي بما قيد.
واحتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وذلك لأنه رتب فيها العذاب الروحاني وهو الإخزاء بناءا على أنه الإهانة والتخجيل على الجسماني الذي هو إدخال النار، وجعل الثاني شرطا والأول جزاءا، والمراد من الجملة الشرطية الجزاء والشرط قيد له فيشعر بأنه أقوى وأفظع وإلا لعكس - كما قال الإمام الرازي - وأيضا المفهوم من قوله تعالى: * (فقنا عذاب النار) * (آل عمران: 191) طلب الوقاية منه، وقوله سبحانه: * (ربنا) * الخ دليل عليه فكأنه طلب الوقاية من المذكور لترتب الخزي عليه فيدل على أنه غاية يخاف منه - كما قاله بعض المحققين - واحتج بها المعتزلة على أن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن لأنه إذا أدخله الله تعالى النار فقد أخزاه والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى: * (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) * (التحريم: 8)، وأجيب بأنه لا يلزم من أن لا يكون من آمن مع النبي صلى الله عليه وسلم مخزيا أن لا يكون غيره وهو مؤمن كذلك، وأيضا الآية ليست عامة لقوله تعالى: * (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا) * (مريم: 71، 72) فتحمل على من أدخل النار للخلود وهم الكفار، وهو المروي عن أنس وسعيد بن المسيب وقتادة وابن جريج. وأيضا يمكن أن يقال: إن كل من يدخلها مخزي حال دخوله وإن كانت عاقبة أهل الكبائر منهم الخروج، وقوله تعالى: * (يوم لا يخزي) * (التحريم: 8) الخ نفي الخزي فيه على الإطلاق والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة وهو نفس الخزي المخلد، وأيضا يحتمل أن يقال: الإخزاء مشترك بين التخجيل والإهلاك والمثبت هو الأول والمنفي هو الثاني، وحينئذ لا يلزم التنافي.
واحتجت المرجئة بها على أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار لأنه مؤمن لقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) * (البقرة: 178) وقوله سبحانه: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) * (الحجرات: 9) والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى: * (يوم لا يخزي الله النبي) * (التحريم: 8) الخ والمدخل في النار مخزي لهذه الآية، وأجيب بمنع المقدمات بأسرها
(١٦٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 157 158 159 160 161 162 163 164 165 166 167 ... » »»