تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ١٦١
وتحققوا أن من قدر على ما ذكر من الإنشاء بلا مثال يحتذيه أو قانون ينتحيه واتصف بالقدرة الشاملة والحكمة الكاملة كان على إعادة من نطقت الكتب السماوية بإعادته أقدر، وإن ذلك ليس إلا لحكمة باهرة هي جزاء المكلفين بحسب استحقاقهم المنوط بأعمالهم القلبية والقالبية طلبوا النجاة مما يحيق بالمقصرين ويليق بالمخلين فقالوا:
* (فقنا عذاب النار) * أي فوفقنا للعمل بما فهمنا من الدلالة، ومن هنا قيل: إن الفاء لترتب الدعاء بالاستعاذة من النار على ما دل عليه ربنا ما خلقت هذا باطلا من وجوب الطاعة واجتناب المعصية كأنه قيل: فنحن نطيعك فقنا عذاب النار التي هي جزاء من عصاك، وسبحانك مصدر منصوب بفعل محذوف، والجملة معترضة لتقوية الكلام وتأكيده، ولا ينافي ذلك كونها مؤكدة لنفي العبث عن خلقه.
وبعضهم قال: بهذا التأكيد ولم يقل بالاعتراض، وجعل ما بعد الفاء مترتبا على التنزيه المدلول عليه بسبحانك وادعى أنه الأظهر لاندراج تنزهه تعالى عن رد سؤال الخاضعين الملتجئين إليه فيه، ولا يخفى تفرع المسألة على التنزيه عن خيبة رجاء الراجين، وقيل: إنه جواب شرط مقدر وأن التقدير إذا نزهناك أو وحدناك فقنا عذاب النار الذي هو جزاء الذين لم ينزهوا أو لم يوحدوا. واستدل الطبرسي بالآية " على أن الكفر والضلال والقبائح ليست خلقا لله تعالى لأن هذه الأشياء كلها باطلة بالإجماع وقد نفى الله سبحانه ذلك حكاية عن أولي الألباب الذين رضي قولهم بأنه لا باطل فيما خلقه سبحانه فيجب بذلك القطع بأن القبائح كلها ليست مضافة إليه عز شأنه ومنفية عنه " خلقا وإيجادا - وفيه نظر - لأن الأشياء كلها سواء من حيث إنها خلق الله تعالى ومشتملة على المصالح والحكم كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى: * (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) * (طه: 50) وتفاوتها إنما هو باعتبار نسبة بعضها إلى بعض وكون بعضها متعلق الأمر والبعض الآخر متعلق النهي مثلا لا باعتبار كون البعض مشتملا على الحكمة والبعض الآخر عاريا عنها، فالقبائح من حيث إنها خلق الله تعالى ليست باطلة لأ الباطل كما علمت هو ما لا فائدة فيه مطلقا، أو ما لا فائدة فيه يعتد بها أو ما لا يقصد به فائدة وهي ليست كذلك لاشتمالها في أنفسها على الحكم والفوائد الجمة التي لا يبعد قصد الله تعالى لها مع غناه الذاتي عنها ولا يشترط كون تلك الفوائد لمن صدرت على يده وإلا لزم خلو كثير من مخلوقاته تعالى عن الفوائد، وتسميتها قبائح إنما هي باعتبار كونها متعلق النهي لحكمة أيضا وهو لا يستدعي كونها خالية عن الحكمة بل قصارى ذلك أنه يستلزم عدم رضاه سبحانه بها شرعا المستدعي ذلك للعقاب عليها بسبب أن إفاضتها كانت حسب الاستعداد الأزلي فدعوى - أن هذه الأشياء كلها باطلة - باطلة كدعوى الإجماع على ذلك وكأن القائل لم يفهم معنى الباطل فقال ما قال.
واستدل بها بعضهم أيضا على أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض وهو مبني ظاهرا على أن الباطل العبث بالمعنى الثالث وقد علمت أن معنى العبث ليس محصورا فيه وبفرض الحصر لا بأس بهذا القول على ما ذهب كثير من المحققين لكن مع القول بالغنى الذاتي وعدم الاستكمال بالغير كما أشرنا إليه في البقرة.
واحتج حكماء الإسلام بها على أنه سبحانه وتعالى خلق الأفلاك والكواكب وأودع فيها قوى مخصوصة وجعلها بحيث يحصل من حركاتها واتصال بعضها ببعض مصالح في هذا العالم لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة ولا يمكن أن تقصر منافعها على الاستدلال بها على الصانع فقط لأن كل ذرة من ذرات الماء والهواء يشاركها في ذلك فلا تبقى لخصوصياتها فائدة وهو خلاف النص، وناقشهم المتكلمون في ذلك بأنه يجوز أن تكون الفلكيات أسبابا عادية للأرضيات لا حقيقية وأن التأثير عندها لا بها ويكفي ذلك فائدة لخلقها.
(١٦١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 156 157 158 159 160 161 162 163 164 165 166 ... » »»