هذا بيان للتفكر في أفعاله تعالى، وما تقدم بيان للتفكر في ذاته تعالى على الإطلاق، والذي عليه أئمة التفسير أنه سبحانه إنما خصص التفكر بالخلق للنهي عن التفكر في الخالق لعدم الوصول إلى كنه ذاته وصفاته جل شأنه وعز سلطانه، وقد ورد هذا النهي في غير ما حديث، فقد أخرج أبو الشيخ والأصبهاني عن عبد الله بن سلام قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتفكرون فقال: لا تفكروا في الله تعالى ولكن تفكروا فيما خلق ".
وعن عمرو بن مرة قال: " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون فقال: " تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق " وعن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تفكروا في الله تعالى "، وعن ابن عباس تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله تعالى - إلى غير ذلك - ففي كون الأول بيانا للتفكر في ذاته سبحانه على الإطلاق نظر على أن بعض الفضلاء ذكر في تفسيره أن التفكر في الله سبحانه محال لما أنه يستدعي الإحاطة بمن هو بكل شيء محيط فتدبر، وقيل: قدم الذكر على الدوام على التفكر للتنبيه على أن العقل لا يفي بالهداية ما لم يتنور بنور ذكر الله تعالى وهدايته فلا بد للمتفكر من الرجوع إلى الله تعالى ورعاية ما شرع له، وأن العقل المخالف للشرع لبس الضلال ولا نتيجة لفكره إلا الضلال، و - الخلق - إما بمعنى المخلوق على أن الإضافة بمعنى في أي يتفكرون فيما خلق في السموات والأرض أعم من أن يكون بطريق الجزئية منهما أو بطريق الحلول فيهما، أو على أنها بيانية أي في المخلوق الذي هو السموات والأرض، وإما باق على مصدريته أي يتفكرون في إنشائهما وإبداعهما بما فيهما من عجائب المصنوعات ودقائق الأسرار ولطائف الحكم ويستدلون بذلك على الصانع ووحدته الذاتية وأنه الملك القاهر والعالم القادر والحكيم المتقن إلى غير ذلك من صفات الكمال، ويجرهم ذلك إلى معرفة صدق الرسل وحقية الكتب الناطقة بتفاصيل الأحكام الشرعية وتحقيق المعاد وثبوت الجزاء، ولشرافة هذه الثمرة الحاصلة من التفكر مع كونه من الأعمال المخصوصة بالقلب البعيدة عن مظان الرياء كان من أفضل العبادات، وقد أخرج أبو الشيخ في " العظمة " عن ابن عباس قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، وأخرج ابن سعد عن أبي الدرداء مثله، وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا مثله، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة "، وعنه أيضا مرفوعا بينما رجل مستلق ينظر إلى النجوم وإلى السماء فقال والله إني لأعلم أن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله تعالى له فغفر له، وأخرج ابن المنذر عن عون قال: سألت أم الدرداء ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: التفكر والاعتبار. وأخرج ابن أبي الدنيا عن عامر بن قيس قال: سمعت غير واحد - لا اثنين ولا ثلاثة - من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان - أو نور الإيمان - التفكر، واقتصر سبحانه على ذكر التفكر في خلق السموات والأرض ولم يتعرض جل شأنه لإدراج اختلاف الليل والنهار في ذلك السلك مع ذكره فيما سلف - وشرف التفكر فيه أيضا كما يقتضيه التعليل، وظاهر ما أخرجه الديلمي عن أنس مرفوعا " تفكر ساعة في اختلاف الليل والنهار خير من عبادة ثمانين سنة " - إما للإيذان بظهور اندراج ذلك فيما ذكر لما أن الاختلاف من الأحوال التابعة لأحوال السموات والأرض على ما أشير إليه، وإما للإشعار بمسارعة المذكورين إلى الحكم بالنتيجة لمجرد تفكرهم في بعض الآيات من غير حاجة إلى بعض آخر منها في آثبات المطلوب.
* (ربنا ما خلقت هذا باطلا) * الإشارة إلى السموات والأرض لما أنهما باعتبار تعلق الخلق بهما في معنى